يقولون في الأمثال: “البئر ينضح بما فيه”. والمقصود هو أننا نعرف طبيعة البئر بتذوق مياهه. إن قدم مياه عذبة، كان بئراً صالحاً، وإن كانت مياهه عسرة مالحة، كان بئرا فاسداً. ولا يمكن لبئر أن ينتج مياه جيدة ورديئة في نفس الوقت. هكذا الإنسان، فأفكار قلب الإنسان تظهر في تصرفاته وأقواله. في الدراسة السابقة، يمكن الرجوع إليها هنا، وجدنا أن الإنسان يكسر وصايا الله الأدبية (الوصايا العشر) التي أعلنها سبحانه لنا باستمرار. ويؤكد على ذلك ما أعلنه لنا الرسول بولس في رسالته لكنيسة روما عندما قال: “إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ”. فماذا ترتب من نتائج عن أعمال الإنسان الخاطئة والعاصية التي لا تطيع ما يطلبه الله؟
انفصال عن الله
لا يختلف اثنان على قداسة وطهارة الله. فهو الكائن الحي، الإله غير المحدود في كل كماله، وهو العالي المرتفع ساكن الأبد. فالله نور وليس فيه أي ظلام او نقص، ويقول الرسول يوحنا: “إِنْ قُلْنَا: إِنَّ لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ وَسَلَكْنَا فِي الظُّلْمَةِ، نَكْذِبُ وَلَسْنَا نَعْمَلُ الْحَقَّ”. ونتائج عدم عمل الصواب هي كارثية. كان لجميع رجال الله الأتقياء والأنبياء الذين تقابلوا مع العلى سبحانه في الكتاب المقدس خبرة مماثلة، ارتعبوا وتحيروا وسقطوا على وجوههم شعورا بخطاياهم. فالنبي موسى عندما تكلم معه الله في الشجرة المشتعلة والتي لا تحترق ” غَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى اللهِ”. كتاب الخروج 3: 6. هذا الخوف من قداسة الله والخشية في حضرته يرجع إلى أبوينا الأولين أدم وحواء، أو ما نسميه بالخطية الأصلية. عصى أدم وحواء أمر الله واكلا من الشجرة التي حرمها، ووراء هذا العصيان كان الشك في محبة الله، وكانت الرغبة في الانفصال عنه، والاعتماد على النفس. حصد أدم وحواء ناتج عملهما. فعندما سمعا صوت الله في الجنة، اختبأ منه. وقال أدم لله: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ». فهذه الخطية جعلت أدم يشعر بالخوف بسبب العصيان، والخزي مما أنتجه. ولا تقتصر هذه الخبرة على أدم وحواء فقط بل هي خبرة البشر جميعاً. كم من الرسائل أستلمها من أصدقاء يشعرون بالخوف، وبأن الله بعيد عندهم. ولا غرابة في ذلك فقد أعلن نبي الله إشعياء بهذه الحالة فقال في فصل 59: هَا إِنَّ يَدَ الرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّصَ، وَلَمْ تَثْقَلْ أُذُنُهُ عَنْ أَنْ تَسْمَعَ. 2بَلْ آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ”. وهذا الانفصال عن مصدر الحياة سيؤدي إلى عقاب شديد ومُخِيفٌ هُوَ الْوُقُوعُ فِي يَدَيِ اللهِ الْحَيِّ!.
تعاسة النفس
لا تتوقف كارثة الخطية عند الانفصال عن الله فقط، بل أيضا تؤدي إلى تعاسة النفس. الذنوب لا تكتفي بإبعادنا عن الله، بل وتسبب أيضا الاستعباد والقهر. فالذنوب والخطايا ليست مجرد عمل خارجي بغيض أو عادة سيئة بل هي فساد كامل في داخلية الإنسان وطبيعته، وهذه الأعمال السيئة والعادات الرديئة ما هي إلا ناتج وثمر لفساد الإنسان الخبيث. وكما أشرنا من قبل بأن ماء البئر، يظهر طبيعته، فكذلك أفكارنا وأفعالنا هي تعبير عما يدور في قلوبنا. وهذا ما قاله السيد المسيح في الإنجيل بحسب مرقس 7: “لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، 22سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. 23جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ”. وهذه الشرور لها جذور قوية تستعبد الإنسان وتقهره ليصبح عبداً ذليلاً لها. كم من الناس تصارع عبودية الجنس الإباحي، أو الإدمان بكافة أنواعه من الخمر والمخدرات والقمار، وفي ذلك تنفق الكثير والكثير ولكن بلا فائدة. الخطية تتعس الإنسان وتهينه.
تدمير العلاقات مع الأخرين
لا تقتصر نتائج الخطايا والذنوب على الانفصال عن الله، وتعاسة الإنسان بل تمتد إلى تدمير العلاقات بين الناس. الحقد، الضغينة، الغيرة، الأنانية والكبرياء مع باقي الصراعات المختلفة هي مظاهر لمرض مزمن في داخل الإنسان وهو الخطية. ويمكن القول بأن الخطايا والذنوب هي متطلبات الذات أو “الأنا”. ” أنا أريد، أنا أرغب، أنا أولاً…!”. وهذه المتطلبات هي ضد الله والناس. وفي الوصايا العشر نجد النواهي والممنوعات والتي توضح واجباتنا تجاه الله والأخرين، وفي العهد الجديد لخّص السيد المسيح هذه الوصايا في وصيتين إيجابيتين. وهما: تحب الرب إلهك من كل قلبك، وتحب قريبك كنفسك. وعندما نقيس أنفسنا بأمانة على هذا المقياس، سنجد الإجابة الحتمية الصعبة. “لقد فشلنا!” فالمشكلة ليست في التعليم، الحالة المادية أو العرقية. المشكلة متأصلة في داخل الإنسان وهي تأليه النفس ووضعها كمركز الحياة. وعندما تكون النفس في المركز، يأتي التعارض ليس فقط مع وصايا الله، بل وأيضا في العلاقات مع الاخرين. انظر الى الطفل الصغير الذي لم يتخط عاماً واحداً وهو يلعب مع باقي الأطفال، ستجده لا يريد لعبته فقط بل أن يستحوذ على لعب الأطفال الأخرين أيضاً. فمن أين أتت هذه الأنانية؟ اه، انها صادرة من عمق القلب. هذا على المستوى الشخصي ولكن نفس المبدأ ينطبق على الأزواج، العلاقات الاجتماعية في البلد، وأخيرا علاقات الدول مع بعضها، ولهذا توجد حروب وصراعات وأزمات. والنتيجة هي التوتر السائد اليوم في عالمنا. فماذا تتوقع عندما ننظر لأنفسنا بعين التسامح والتساهل بينما ننظر للأخرين بعين الانتقاد والمذمة. أو عندما نبالغ في تقدير أنفسنا وفضائلنا من ناحية، ونذكر عيوب الأخرين وتقصيراتهم من ناحية أخرى.
كل هذه هي سمات ونتائج الذنوب والخطايا. ثم يأت السؤال الحاسم، وما هو العلاج لمرض الخطية هذا؟ الإجابة لا تكمن في عمل ما يقوم به الإنسان من طقس أو فرض، ولكن أشد ما يحتاجه الإنسان هو تغيير شامل في طبعه. أو ان جاز التعبير، ليس الاحتياج لتحديث برمجة الحاسب، بل إلى تغيير القرص الصلب بالكامل. إحلال المحبة الباذلة بدل من النفس المتمركزة. وما لم نكتشف خطورة مرض الخطية وبشاعته داخلنا، فلن نطلب العلاج الواقي منه. ولهذا قال السيد المسيح في الإنجيل بحسب مرقس والفصل 7: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ».
في الدراسة التالية سنتعرف على الحل لمشكلة الخطية بنتائجها البشعة ثلاثية الأبعاد. وذلك عندما أخذ الله المبادرة، فجاء يسوع المسيح لينهي انفصالنا عن الله ويخلق فينا قلباً جديداً بالولادة الثانية.
أسئلة للتفكير:
– خذ بعض الوقت لتفكر في حياتك وتصرفاتك، ما نوع الأفكار والتصرفات التي تنبع من قلبك؟
– ما هي نتائج كسر وصايا الله الأدبية؟ وكيف تنطبق هذه النتائج على حياتك؟
– ما هي الخطية الأصلية؟ وما هي أثارها؟
– ما هو رد فعل الله على تصرفاتك؟ هل هو قريب ام بعيد عنك؟
– كيف تفسر أعمال الناس الرديئة؟
– هذه الدراسة بمثابة صورة الاشعة التي تظهر حالة القلب، فما هي حالة قلبك الروحية؟ هل تحتاج لطبيب روحي يشفي داخلك؟