بforgiveness smallعيون مليئة بالدموع، وقلوب كانت تخفق بالحزن والأسى تابعنا الأحداث الأليمة، ومشهد إعدام المصريين الأقباط في ليبيا على يد الإرهاب الأسود. هذا العمل الغادر والمشين الذي تعجز الألسنة عن شرح دوافعه وأهدافه. وبعد أن انحسرت الصدمة من هول الفاجعة، تعالت الأصوات وتباينت في ما بين قائل يطلب الغفران للقتلة وبين غاضب يطلب العقاب وعدم السكوت عن الجريمة.
تُرى ماذا يقول الكتاب المقدس في هذه المأساة؟، وكيف يتصرف المسيحيون حيال هذا الأمر؟

مفهوم الغفران في الكتاب المقدس

الكتاب المقدس يتكلم عن نوعين من الغفران، غفران الله للمذنب الخاطئ بسبب كفارة المسيح على الصليب، وغفران المسيحي للآخرين. لقد أخطأ الإنسان وكسر وصايا الله بالفعل والقول وأصبح مذنباً أمام سيد الكون. وبما أن الله عادل وقدوس فإن العدالة الإلهية يجب أن تأخذ مجراها، والمذنب يستلم عقابه فالكتاب المقدس يعلن أن: أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ (رومية 6: 21) وبذلك حُكم على الجميع بالموت. ولكن الله أحب الإنسان الذي خلقه على صورته ولم يرد أن يفنيه، لذلك جاء السيد المسيح إلى أرضنا وحمل بنفسه عقاب خطايانا عندما ذهب للموت على الصليب. وهكذا تحققت عدالة الله وتقابلت مع محبته للبشر. وكل من آمن بالمسيح وتاب واحتمى في فداءه، قد حصل على غفران الله. والله يؤكد على ذلك بقوله ” أَنَا أَنَا هُوَ الْمَاحِي ذُنُوبَكَ لأَجْلِ نَفْسِي، وَخَطَايَاكَ لاَ أَذْكُرُهَا” (إشعياء 43: 25). وعندما يدرك الإنسان حجم التضحية التي بذلها السيد المسيح من أجل غفران خطاياه الكثيرة، يقدر أن يقدم الغفران لأخيه الإنسان الذي أخطأ في حقه. وهذا هو النوع الثاني من الغفران.

في كتابه، صانع السلام، يقدم “كين ساندي” مفهوما مبسطاً عن الغفران فيقول أن الغفران هو قرار إرادي بتحرير شخص من مسئولية الخطأ الذي ارتكبه. ويضيف أن كلمة غفران أو مسامحة غالباً ما تشير إلى الديون التي تم إلغائها بالكامل. وهي تختص بشخص مخطئ غير قادر على الوفاء بالدين الذي عليه. ومن خلال هذا المفهوم، يكون الغفران أو المسامحة عملاً مكلفاً، فهو يعني أن يتحمل شخص مسئولية سداد دين عن شخص أخر. وهذا ما فعله الرب يسوع على الصليب إذ دفع الدين وحصل على الغفران والمسامحة لنا. وفي الإنجيل بحسب متى والفصل 18، قدم السيد المسيح مثلاً يقارن به غفران الله للمذنب وطريقة تعامل الإنسان مع من يخطئ في حقه. فذكر بأن إنساناً كان مديوناً بمبلغ طائل، ولما لم يقدر أن يوفيه طلب صاحب الدين ببيع المديون وأهله لإيفاء الدين. فتذلل المديون وطلب من صاحب الدين أن يتمهل عليه. فتحنن الدائن وعفا عن الرجل المديون. ثم خرج هذا الرجل المديون فوجد رجلاً أخر كان قد استدان منه مبلغاً بسيطاً فطلب منه أن يسدد المبلغ، ولما لم يكن معه ما يدفعه لم يشفق عليه أو يسامحه بل ذهب به للسجن. فلما سمع صاحب الدين ما فعله المديون غضب منه وقال له أنا رحمتك بالكثير، فلماذا لم ترحم رفيقك بالقليل؟ وكان السيد المسيح يريد أن يوجه الأنظار إلى أنه إن كان الله قد غفر الكثير، ألا ينبغي على الإنسان أن يغفر القليل. فإنه مهما كان خطأ الإنسان ضد أخيه الإنسان، فحجم الخطأ لا يمكن مضاهاته بمقدار أخطائنا وذنوبنا التي غفرها الله لنا.

ما معنى الغفران بصورة عملية؟

على المستوى الشخصي، الغفران المسيحي يعني أنه يجب عليّ أن أخلي مسئولية هذا الشخص تجاهي. ألا أحمل الضغينة والكراهية له. أن أسامحه في قلبي مثلما سامحني الله في المسيح. ولكن هل معنى ذلك بأن نترك المجرمين والقتلة يذهبون بلا عقاب عن الأذى الذي ارتكبوه؟
بالتأكيد لا!! هذا الغفران وهذه المسامحة لا تلغي مسئولية الشخص المذنب تجاه الله والمجتمع. فتجد أن السارق أو القاتل يأتي تحت إدانة السلطات المدنية والقضاء.
الله وضع السلطة المدنية لتحقيق العدالة ولمعاقبة المخطئ.فيقول الكتاب المقدس عن ترتيب السلطة والقضاء “أنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ، لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا، إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ، مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ”  رسالة روميه 13: 4
وعلى هذا فإن قرارات السلطة المصرية بضرب معسكرات الإرهاب، كانت خطوة حكيمة تتماشى مع عدالة الله التي ائتمنها للسلطة المدنية.
ولكن في بعض الأحوال يقف القضاء عاجزاً عن إثبات الجرم وتحقيق العدالة المدنية المطلوبة لعدم توافر الأدلة، فيشعر الإنسان بقصور العدل والقضاء ويطلب أن يحقق العدالة بنفسه في صورة الانتقام من الفاعل المجرم. هذا الأمر يمنعه الكتاب المقدس تماماً، حيث أعلن الله بأنه وحده له الحق في تحقيق العدل النهائي إذ يقول “ لِيَ الانْتِقَامُ، أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ الرَّبُّ”. رسالة العبرانيين 10: 30
صحيح أننا نطلب تحقيق العدالة في اللحظة والتو، لكن الله الذي لا ينعس ولا ينام أحياناً بحكمة سماوية يتمهل في إجراء العدل لأسباب كثيرة حتى أن الرسول بولس قال في رسالته الأولى لتيموثاوس 5: 24 “ خَطَايَا بَعْضِ النَّاسِ وَاضِحَةٌ تَتَقَدَّمُ إِلَى الْقَضَاءِ، وَأَمَّا الْبَعْضُ فَتَتْبَعُهُمْ”. أي أنه في اليوم الأخير، يوم الدينونة العظيم، كل أمر سيظهر وكل أنسان سيعطي حساباً عما فعل.

كيف يمكن أن نغفر، وقلوبنا مليئة بالحزن والغضب؟

إن كنا نعتمد على القدرة البشرية، فإننا سنخوض معركة ذاتية طويلة ومحبطة. إن الغفران الحقيقي والمسامحة القلبية تعتمد على نعمة الله. فإذا اتكلنا بالكامل على قوة ونعمة الله فسوف نتمكن من الغفران للآخرين حتى في أكثر المواقف ألماً. الله وعد أن يمدنا بالنعمة والقوة اللازمة للغفران من خلال كلمته الطاهرة التي نلتمس منها العون يومياً. وكذلك الروح القدس، روح القوة والنصح والعزاء، هو يعمل فينا لنشابه طبيعة الفادي المسيح فيعلمنا ويشجعنا.  وفي الكتاب المقدس، لدينا مثالا رائعاً للغفران الحقيقي كما ظهر في كلام استفانوس أول شهيد في المسيحية. كانت أخر كلماته قبل أن يسلم الروح “ يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ الْخَطِيَّةَ “. كتاب الأعمال 7: 60 .  لم يكن غفرانه لأنه غُلب على أمره، فقد كان واضحا وصريحاً في إدانته لشر اليهود في رفض المسيا ومقاومة الروح القدس. ولكنه طلب الرحمة الشخصية لهم وسّلم أمره لله العادل. كذلك تحضرني قصة السيدة الهولندية الفاضلة “كوري تن بووم” التي سُجنت هي وأفراد عائلتها على يد النازي في الحرب العالمية الثانية. مات أبوها وشقيقتها في معسكرات الاعتقال بسبب المعاملة الوحشية. وبعد الحرب، سافرت كوري لكثير من البلدان لتخبر كيف نجت، وكيف اختبرت محبة وعناية الله الفائقة. وفي أحد الاجتماعات، وبعد انتهاء الخدمة، تقدم أحد الرجال لتحيتها. وما أن تطلعت كوري على وجهه إلا وعرفت فيه الحارس الألماني في معسكر الاعتقال. وفي لحظات، تدفقت المشاعر المختلفة إلى قلبها وبدت تغلي في داخلها وتذكرت كل ما حدث في ذلك المعسكر من معاملة قاسية وألم وحزن. تجمدت كوري للحظات ولم تستطع أن تمد يدها لتصافح يد الحارس الممدودة. حاولت أن تبتسم ففشلت. ثم رفعت صلاة قلبية لله وطلبت “ أيها الرب يسوع لست قادرة على غفرانه، فامنحني قوة من عندك لمسامحته”. تقول كوري أنها شعرت في الحال بقوة تمتد في ذراعها لترفعها لتسلم على الرجل الواقف أمامها، كما شعرت بتدفق قوة إرادة الغفران تجاهه. هكذا اكتشفت كوري أن شفاء المشاعر، وإطلاق الغفران لا يعتمد على قوتنا أو صلاحنا بل يعتمد على الله شخصياً. فعندما يطلب منا الله أن نحب أعدائنا، فإنه يعطينا مع الوصية المحبة نفسها.

تعال معي لنشاهد كيف يتحقق الغفران بصورة عملية

كملخّص لما سبق

كيف أغفر لمن أساء إلي؟

يعلّم الكتاب المقدس، أنه ينبغي أن نغفر للمذنبين إلينا مثلما غفر الله لنا ذنوبنا الكثيرة والكبيرة. إذن الغفران هو قرار إرادي بتحرير شخص من مسئولية الخطأ الذي ارتكبه. وهذا يعني ألا نحمل الحقد والكراهية للمخطئ وأن نترك لله الديان العادل تحقيق العدل في وقته. الله وعد بالمدد والقوة للغفران.

والآن، ها هي فرصتك للحديث معنا عما تفكّر فيه
يا صديق، نحن نريد أن نساعدك في رحلة الإيمان. الخطوة التالية هي أن ترسل لنا برغبتك في المعرفة والإيمان لنتواصل معك، فنشجعك ونصلي من أجلك. نحن نتعامل بحرص وسرية مع كل رسائل الأصدقاء