كتاب أعمال الرسل
الدرس الثالث
مواضيع الرسالة

المقدمة

يعرف كل من يتعامل مع الآباء والأمهات أنهم كثيرًا ما يكرروا تعليماتهم لأطفالهم الصغار مرات عديدة. فيضطر الآباء لإعادة نفس الأفكار لأطفالهم لمساعدتهم على النضوج وإعدادهم ليعيشوا حياةً مثمرة.
وبنفس الطريقة، عندما نقرأ سفر أعمال الرسل سرعان ما يصبح واضحًا أن لوقا تناول بعض المواضيع مرات عديدة. وتمتد هذه الموضوعات المتكررة في كل السفر وهي تُعتَبَر مفاتيحًا هامة لفهم تعاليم لوقا. ولذلك، فإن كنا نأمل في إدراك أهمية سفر أعمال الرسل، لا بد أن نعطي اهتمامًا كبيرًا لهذه المواضيع المتكررة.
هذا هو الدرس الثالث في سلسلتنا سفر أعمال الرسل، وقد دعوناه المواضيع الرئيسية. وسنتعرف في هذا الدرس على المفاهيم الرئيسية الثلاثة التي تناولها لوقا مراراً وتَكراراً بينما كشف الانتشار غير المعوق لإنجيل ملكوت الله في الكنيسة الأولى. لقد لخصنا في الدروس السابقة هدف لوقا من كتابة سفر أعمال الرسل بأنه كتب سجلاً تاريخياً عن التأثير الفعّال لرسالة الإنجيل. وكما رأينا سابقاً، سجل لوقا حقائق التاريخ كشهادة موثوق بها عن العمل المستمر للمسيح من خلال الروح القدس. وسوف نستكشف في هذا الدرس هذا الهدف بشكل أعمق وذلك بالغوص في بعض المواضيع الرئيسية التي استخدمها لوقا لتوضيح ودعم هذه الفكرة الأساسية.
سوف نستكشف ثلاثة مواضيع رئيسية قُدِّمت في بداية السفر وتطورت في جميع أنحاء إصحاحاته. أولاً: سوف ندرس موضوع الروح القدس الذي أعطى الكنيسة القوة لنشر ملكوت المسيح. ثانياً: سنركز على الرسل، الذين دعاهم المسيح ليشهدوا له وأعطاهم السلطان لخدمة كنيسته وقيادتها. وثالثاً: سنتطرق إلى موضوع الكنيسة التي أسسها الرسل ليضمنوا استمرار انتشار الإنجيل والملكوت عبر التاريخ. لنتحدث أولاً عن الروح القدس ودوره في سفر أعمال الرسل.

الروح القدس

يقدم سفر أعمال الرسل لاهوتًا غنيًا عن الروح القدس. فهو يصفه باعتباره ذاك الذي يمكّن الكنيسة لتعيش حياةً متغيّرة ولتكرزَ بالإنجيل في كل العالم. ويذكر سفر أعمال الرسل أن الروح القدس قام بآياتٍ وعجائب عديدة، ليؤيّد خدمة الرسل، وغيرهم من قادة الكنيسة الأولى. كما يشهد السفر بأن الروح القدس أعطى شجاعةً عظيمة للمؤمنين الذين واجهوا المقاومة والاضطهاد. باختصار، يصف سفر الأعمال الروحَ القدس باعتباره ذاك الذي يمكّن بقوته من انتشار الإنجيل والملكوت، والذي يعطي قوةً للمؤمنين كي يعيشوا حياة التقوى
رغم أن الروح القدس عمل بطرق مختلفة في سفر أعمال الرسل، إلا أننا سنركز على تأثيره على الكنيسة في ثلاث فترات. أولاً: سوف ندرس الروح القدس في سفر أعمال الرسل قبل يوم الخمسين. ثانياً: سنتفحص حلول الروح القدس في أورشليم في يوم الخمسين. وثالثاً: سنبحث في عمل الروح القدس بعد يوم الخمسين. دعونا ننظر أولاً إلى الطريقة التي يصف بها سفر أعمال الرسل الروح القدس قبل يوم الخمسين.

قبل يوم الخمسين

سجل لوقا في أعمال الرسل 1: 3-11 أن يسوع قضى أربعين يوماً بين قيامته وصعوده وهو يعلم رسله. نقرأ في أعمال الرسل 1: 3:

يَظْهَرُ لَهُمْ [يَسُوع] أَرْبَعِينَ يَوْماً وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ. (أعمال الرسل 1: 3)

وكما سنرى لاحقاً، إن أحد العناصر الهامة في تعليم يسوع عن الملكوت هو أن الروح القدس سيحل قريباً على الرسل بطريقة خاصة. سنتطرق لجانبين من تعليم يسوع عن الروح القدس قبل يوم الخمسين. أولاً: سنناقش توقيت حلول الروح القدس. وثانياً: سنركز على الهدف من حلول الروح القدس. فلنتأمل أولاً في تعليم يسوع بخصوص توقيت حلول الروح القدس.

التوقيت

اصغ إلى كلمات يسوع في أعمال الرسل 1: 4-8:

أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ بَلْ يَنْتَظِرُوا مَوْعِدَ الآبِ … أَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ لَيْسَ بَعْدَ هذِهِ الأَيَّامِ بِكَثِيرٍ. أَمَّا هُمُ الْمُجْتَمِعُونَ فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ يَارَبُّ هَلْ فِي هذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ لَهُمْ لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ. لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ. (أعمال الرسل 1: 4-8)

لاحظ أن يسوع أعلن عن معمودية الروح القدس الآتية، وأن الرسل سألوا يسوع إذا كان سيرد الملك إلى إسرائيل عما قريب. إن مصطلح ترد الملك إلى إسرائيل غير مألوف بالنسبة للعديد من القراء المعاصرين، ولهذا علينا تفسيره.
لقد تنبأ أنبياء العهد القديم أنه بسبب الخطايا الفظيعة لإسرائيل واليهودية، فإن الله سباهم من أرض الموعد وأخضعهم لطغيان الحكام الأجانب. واستناداً إلى نبوءات العهد القديم، اعتقد اليهود أن الله سيرسل المسيَّا في وقت لاحق ليسترد شعبه بغفران خطاياهم، يعيدهم إلى أرض الموعد ويكون ملكاً عليهم. وبما أن المسيَّا من نسل داوود، فإنه سيصبح ملكاً على إسرائيل واليهودية، محوّلاً أرض الموعد إلى مركز لملكوت الله على الأرض، حيث يتمتع شعب الله بحياة أبدية مبارَكة. وبحلول القرن الأول، عانت إسرائيل من الدينونة لمئات السنين، وكانوا يتوقون للمسيّا بالمعنى السياسي لكي يسترد مملكة إسرائيل. وهكذا، عندما علم الرسل أن يسوع كان على وشك الصعود إلى السماء، أَمِلُوا أنه سيحقق نبوءات العهد القديم هذه قبل صعوده. ولهذا سألوه عن رد الملك لإسرائيل. ومع ذلك، علّمهم يسوع أن هذا التوقع الشائع للاستعادة السياسية المفاجئة لمملكة إسرائيل كان مُضلَلاً، وأن انتشار الإنجيل في جميع أنحاء العالم ومجيء المسيح ثانية في المجد هو الطريقة التي سيحقق بها الله نبوة العهد القديم.
ولكن لماذا سأل الرسل عن استعادة مملكة إسرائيل عندما تكلم يسوع عن معمودية الروح القدس؟ في الواقع، وللمرة الثانية، كان الرسل يفكرون بنبوة العهد القديم. وقد تنبا انبياء العهد القديم، في عدد من الفقرات، أنه بعد انتهاء الدينونة، سيسكب الله من روحه أكثر من أي وقت مضى. اصغ لما قاله إشعياء النبي عن الروح القدس في إشعياء 44: 3-4:

لأَنِّي أَسْكُبُ مَاءً عَلَى الْعَطْشَانِ وَسُيُولاً عَلَى الْيَابِسَةِ. أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى نَسْلِكَ وَبَرَكَتِي عَلَى ذُرِّيَّتِكَ. فَيَنْبُتُونَ بَيْنَ الْعُشْبِ مِثْلَ الصَّفْصَافِ عَلَى مَجَارِي الْمِيَاهِ. (إشعياء 44: 3-4)

يتحدث إشعياء هنا عن استعادة المملكة، ويقول إن الله سيسكب روحه على الأرض.
لقد أعلن أنبياء العهد القديم أن بني إسرائيل سيعيشون فيما أسماه الرابيون هذا الدهر، دهر الخطية، الفساد، والموت، قبل مجيء المسيَّا. وأعلنوا أيضاً أنه عندما يأتي المسيَّا سوف يمهد لدهر جديد دعاه الرابيون بالدهر الآتي، وهو الدهر الذي يتم فيه إدانة أعداء الله، ويتبارك فيه شعبه في نهاية المُطاف. ولم يوضّح أنبياء العهد القديم الوقت الذي تتم فيه هذه الأحداث، ولكن توقع معظم الرابيون أنها ستحدث بنفس الوقت.
وعكس هذا الرأي، أوضح يسوع أن ملكوت الله سينمو منتشراً في كل أنحاء العالم. وبدلاً من أن يأتي في نفس الوقت، فإن الانتقال إلى ملكوت الله المجيد سيأتي على مراحل. وسوف يتأسس الدهر الآتي أثناء خدمة يسوع على الأرض. وسيستمر خلال مُلك يسوع في السماء، بينما ينتشر الملكوت على الأرض من خلال خدمة نشر الإنجيل. وعندما يأتي يسوع في المستقبل، سينتهي دهر الخطية هذا، وسيتم اكتمال ملكوت الله المُنتَظَر بأكمله.
وتفسر هذه النظرة لمجيء الملكوت لماذا أجاب يسوع سؤال الرسل بهذه الطريقة. كان الروح القدس على وشك أن يَحُلَّ على الكنيسة، ولكن لا يعني هذا أن اكتمال كل الأشياء كان قريباً. لقد أسس يسوع الملكوت فقط. أما بركة الروح القدس فستجهّز الكنيسة، بينما تستمر في حياتها في عالم خاطئ، إلى أن يعود المسيح.
بعد أن فهمنا توقيت حلول الروح القدس، فلننتقل للحديث عن الهدف من مجيئه.

الهدف

استمع مرة أخرى لكلمات يسوع للرسل في أعمال الرسل 1: 8:

لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ. (أعمال الرسل 1: 8)

وجّه يسوع، بهذه الكلمات، رسله ليفكروا في معمودية الروح القدس بطرق جديدة. فبدلاً من تمهيد المرحلة النهائية للملكوت، كان لابد أن يَحُلَّ الروح القدس ليمكّن الرسل حتى يكونوا شهوداً أتقياء وأمناء للمسيح. فلنحلل ما قاله يسوع، بالتركيز على بعدين من أبعاد خدمة الروح القدس: القوة، والشهود الأتقياء.
أولاً، قال يسوع أن الرسل سيستلموا القوة من خلال معمودية الروح القدس. وكان ارتباط الروح القدس بالقوة أمراً شائعاً في العهد القديم، وكثيراً ما كان يشار إليه بالتعبير روح الله، وهو ترجمة للمصطلح العبري “ruach elohim”. ويشير هذا المصطلح العبري إلى ريح قوية أو طاقة كبيرة من الله. وفي العهد القديم، عمل روح الله بقوة في العالم أجمع، لتحقيق مشيئته.
لقد أُظهِرت قوة الروح القدس أيضاً بطرق فعالة في حياة الناس. على سبيل المثال، عندما حل روح الله على شمشون في سفر القضاة 14 و15، قام شمشون بأعمال جسدية معجزية منحت إسرائيل انتصارات عظيمة على الفلسطينيين.
بالإضافة إلى قوة الروح القدس، ذكر يسوع أن الروح القدس سيجعل الرسل شهوداً أتقياء له. ويعكس هذا الرابط العهد القديم أيضاً. ففي أكثر من مناسبة، مكّن الروح القدس شعبه من الكلام بشجاعة وفعاليّة باسم الله. على سبيل المثال، استمع إلى كلمات ميخا في ميخا 3: 8:

لكِنَّنِي أَنَا مَلآنٌ قُوَّةَ رُوحِ الرَّبِّ. (ميخا 3: 8)

يشرح ميخا، في هذه الفقرة، أن الروح القدس شجعه ليخبر الحقيقة رغم مقاومة الأنبياء الكذبة له. فعندما قال يسوع لرسله أنه سيعمدهم بالروح القدس ليمكنهم ليكونوا شهوداً له، أشار أن الروح سيعمل فيهم كما عمل في آخرين في العهد القديم. وسيقوم الروح القدس أيضاً بأعمال القوة لكي يؤصّل حقيقة رسالة الرسل، وسيعطيهم الكلمات ليتكلموا مع أولئك الذين يقاوموهم. وبالطبع، تظهر قوة الروح القدس عدة مرات خلال سفر أعمال الرسل.
بعد أن تعرفنا على بعض الطرق التي قدم بها لوقا الروح القدس قبل يوم الخمسين، يجب أن ننتقل إلى حلول الروح القدس في يوم الخمسين عندما اجتمعت الكنيسة في أورشليم.

يوم الخمسين

يتضمن أعمال الرسل 2: 1-4 حلول الروح القدس على الكنيسة:

وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ. وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بألسنة أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا. (أعمال الرسل 2: 1-4)

وحتى نستكشف أهمية هذا الحدث، سنتناول ثلاث قضايا رئيسية. أولاً، سنتعرض لمغزى يوم الخمسين. ثانياً: سنتأمل في ظاهرة التكلم بالألسنة. وثالثاً: سنناقش نتائج هذه الأحداث. فلنتأمل أولاً في مغزى يوم الخمسين.

المغزى

كان يوم الخمسين وقت الاحتفال في تقويم إسرائيل المقدس الذي كان مرتبطاً بعيد الفصح بشكل مقرّب. وحسب خروج 12، ولاويين 23، كان عيد الفصح الوقت الذي تذَكّر فيه بنو إسرائيل خروجهم من مصر. ويحتفل بذكرى ليلة الضربة الأخيرة عندما قتل فيها الله بكر أبناء المصريين لكنه عبر عن بيوت بني إسرائيل الأمناء. لقد ذكّر احتفال عيد الفصح اليهود بالطريقة التي حررهم فيها الله من العبودية في مصر.
لقد حل الروح القدس بعد عيد الفصح بخمسين يوم في وقت الحصاد الأول. واحتفل أولاً بالعناية الإلهية الخاصة بالطعام في أرض الموعد. وكان بنو إسرائيل، في ذلك الوقت، يقدمون باكورة حصادهم كتقدمة شكر من أجل كل المحاصيل التي أملُوا أن يجمعوها في تلك السنة.
بالإضافة إلى ذلك، ومع حلول العهد الجديد، تذكر اليهود إعطاء ناموس الله لموسى أثناء الاحتفال بيوم الخمسين. وكان حلول الروح القدس في هذا الوقت مهمٌ أيضاً للكنيسة الأولى لأنه ذكّرهم بالرجاء الذي تكلم عنه النبي إرميا. استمع لما كتبه النبي في إرميا31:31-33:

هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً… أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. (إرميا31:31-33)

إن كتابة الناموس في القلوب هو عمل روح الله الموعود به في العهد القديم والذي تم تحقيقه في العهد الجديد.
وبناءً على خلفية العهد القديم هذه، كان حلول الروح القدس في يوم الخمسين في أعمال الرسل 2 هاماً بشكل خاص للكنيسة المسيحية. وقد حدثت تضحية يسوع على الصليب أثناء الاحتفال بعيد الفصح. حيث مات كحمل الفصح الأخير، وأمّن تحريراً نهائياً لشعب الله من عبودية الخطية والموت. كما وصفها بولس في رسالة 1 كورنثوس 5: 7:

لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا. (1 كورنثوس 5: 7)

في ضوء هذا، لم يكن حلول الروح القدس في يوم الخمسين مفاجئاً. وإذ وجّه يوم الخمسين الانتباه إلى عظمة الحصاد، كان حلول الروح القدس باكورة حصاد الخلاص الأبدي. وأشار حلول الروح القدس في أول يوم خمسين مسيحي، إلى أن الكنيسة حصلت أيضاً على كتابة ناموس الله في القلب، مجهِّزاً الكنيسة للشهادة بجرأة. كما وصفها بولس في رومية 8: 23:

نَحْنُ [المسيحيين] الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ. (رومية 8: 23)

عندما كتب لوقا روايته عن حلول الروح القدس، أكّد على ارتباطهِ بيوم الخمسين ليشير إلى الأهمية العظيمة لهذا الحدث. فلم يكن هذا الحدث عاديًّا؛ ولم يكن حتى مجرد معجزة من ضمن معجزات عديدة أخرى. فقد بدأت موهبة الروح القدس في يوم الخمسين حصادَ الخلاص العظيم، والتجديد الداخلي لشعب الله لتأسيس ملكوت الله المسياني المُنتَظَر.
بعد أن فهمنا جزءاً من مغزى يوم الخمسين الذي هو حلول الروح القدس على الكنيسة، لابد أن نتوجه إلى ظاهرة التكلم بالألسنة كإظهار لحضور الروح القدس.

الألسنة

سجل لوقا، في أعمال الرسل 2، أنه عندما حلَّ روح الله على الكنيسة في يوم الخمسين، تكلم الرسل ومؤمنون آخرون بألسنة أخرى. للأسف، هناك الكثير من الارتباك في الكنيسة بخصوص موهبة التكلم بالألسنة. ولهذا، لابد أن نأخذ لحظة لنتأمل في سؤالين. أولاً، ما هي موهبة التكلم بالألسنة؟ وثانياً، لماذا أعطى الله هذه الموهبة؟
يفهم مختلف المسيحيون، في كنيسة العصر الحديث، موهبة التكلم بالألسنة بطرق مختلفة. ويجادل البعض أنها معجزة خاصة بالسمع وليس بالكلام. وبحسب هذه النظرة، تكلم الرسل بتعابير انجذابيه، ومكّن الروح القدس المستمعين من فهمها كُلٌ بلغته.
ولكن هناك نقطتان على الأقل في وصف لوقا تجعلنا نعتقد أنها معجزة متعلقة بالتكلم التي تكلم فيها المسيحيون الأوائل بلغات لم يتعلموها من قبل أبداً. أولاً وقبل كل شيء، كتب لوقا بشكل خاص أن الروح القدس مكّن المتكلمين من التكلم بألسنة أخرى. كما نقرأ في أعمال الرسل 2: 4:

وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بألسنة أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا. (أعمال الرسل 2: 4)

لم يذكر لوقا أن الروح القدس زرع في المستمعين قوات سمع معجزية.
وثانياً، إن مصطلح التكلم بالألسنة هو ترجمة الكلمة اليونانية “glōssa”. عادةً ما تشير هذه الكلمة، في العهد الجديد والأدب اليوناني، إلى اللغات الإنسانية العاديّة. وليس هناك أي سبب أساسي للشك بأنها تعني شيئاً آخر في هذا السياق. وهكذا، يمكننا أن نثق أن معجزة التكلم بالألسنة في يوم الخمسين هي القدرة فوق الطبيعية على التكلم بلغات إنسانية لم يتم تَعَلُمُها. ولكن لماذا أظهر الروح القدس حضوره بهذه الطريقة الخاصة؟ وما كان مغزى التكلم بالألسنة في ذلك اليوم؟ استمع إلى تفسير بطرس في أعمال الرسل 2: 16-21:

بَلْ هذَا مَا قِيلَ بِيُوئِيلَ النَّبِيِّ. يَقُولُ اللهُ وَيَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً. وَعَلَى عَبِيدِي أَيْضاً وَإِمَائِي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي فِي تِلْكَ الأَيَّامِ فَيَتَنَبَّأُونَ… قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ يَوْمُ الرَّبِّ الْعَظِيمُ الشَّهِيرُ. وَيَكُونُ كُلُّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ. (أعمال الرسل 2: 16-21)

يشير بطرس في هذه الفقرة إلى يوئيل 2: 28-32 ليفسر لنا ما حدث في يوم الخمسين، بما في ذلك معجزة التكلم بالألسنة.
من المثير للاهتمام، أن بطرس لم يقتبس كلمات يوئيل النبي تحديداً. حيث يبدأ نص يوئيل، في الأسفار العبرية والترجمة السبعينية، بالقول “وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ”. ولكن أعاد بطرس صياغة نص يوئيل 2: 28 بالقول: “وَيَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ”. يشير تغيير بطرس لكلمات يوئيل إلى إيمانه بأن أحداث يوم الخمسين هي جزء من الأيام الأخيرة، أي نهاية الأزمنة.
كان اعتقاد بطرس بأن حلول الروح القدس الذي تم في الأيام الأخيرة مؤيَدٌ بأجزاء أخرى كان قد اقتبسها من سفر يوئيل. فعندما اقتبس بطرس من يوئيل 2، أشار إلى أن حلول الروح القدس كان لابد أن يحدث قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ يَوْمُ الرَّبِّ الْعَظِيمُ الشَّهِيرُ.
كان يوم الرب، خلال العهد القديم، يوم دينونة الله وبركته، ويشير في عدة مناسبات في العهد القديم إلى اليوم الذي يهزم فيه الله أعدائه نهائياً وكلياً ويبارك شعبه الأمين.
وهكذا، عندما شرح بطرس أن حلول الروح القدس هو عرض لِيَوْمُ الرَّبِّ الْعَظِيمُ الشَّهِيرُ، وقال إن ما حدث في يوم الخمسين هو حدث تاريخي هام. لقد حل الروح القدس في يوم الخمسين كأعجوبة الأيام الأخيرة، أي زمن التدخل الإلهي المجيد لتأسيس المرحلة النهائية لملكوت الله.
للأسف، يفتقد الكثير من المسيحيين اليوم المغزى الكبير لحلول الروح القدس. بدلاً من ذلك، من الشائع أن يعتقد المسيحيين أن أحداث أعمال الرسل 2 هي نموذج لحياة التقديس الشخصي لكل مسيحي. نحن نبتكر التوقعات بأن كل المسيحيين الروحيين الحقيقيين سيختبرون الإظهار الفعال للروح القدس كما حدث في يوم الخمسين وفي مناسبات أخرى عديدة في سفر أعمال الرسل.
فكّر في الأمر على هذا النحو. يعلمنا العهد الجديد أن عدداً من أعمال الله العظيمة الجبارة حدث لتأسيس ملكوت الله. فقد مات المسيح لأجل خطايانا، قام من الأموات، وصعد عن يمين الله الآب. وفي كل مرة يأتي فيها إنسان إلى الإيمان بالمسيح، تُطبَق مزايا هذه الأحداث على حياته. لكن لا يموت المسيح، يقوم ويصعد في كل مرة يحصل فيها شخص على حياة جديدة فيه.
وبنفس الطريقة، يعلمنا العهد الجديد أن يوم الخمسين هو واحد من أعمال الله العظيمة الذي لا يُمكِنَنا أن نتوقع حدوثه مرة أخرى، والتي جلب الله من خلاله الأيام الأخيرة. هذا وسوف نرى لاحقاً في هذا الدرس، كيف ينطبق هذا أيضاً على المناسبات الأخرى التي حلَّ فيها الروح القدس بطرق خاصة في سفر أعمال الرسل. فمنذ الأيام الأولى للكنيسة المسيحية، تم تطبيق حضور الروح القدس على الكنيسة ليمكننا من القيام بالخدمة.
يجب أن نتوقع حضور الروح القدس دائماً في حياة المؤمنين، لكن يجب ألا نتوقع نفس نوع الإظهار تماماً كما حدث في يوم الخمسين. في الواقع، حتى في المناسبات الأخرى التي حل فيها الروح القدس بطريقة خاصة في سفر أعمال الرسل، لم تكن إظهارات الروح نفسها تماماً. إن ألسنة النار المرئية وصوت الريح، بالإضافة إلى مواهب التنبؤ والتكلم بالألسنة في يوم الخمسين، ليست خبرات مسيحية عادية. إنها نتيجة التدخل الإلهي العظيم، أي عمل الله الذي أسس به ملكوته.
بعد أن تعرفنا على مغزى يوم الخمسين وتفحصنا معجزة التكلم بالألسنة التي رافقت حلول الروح القدس، علينا أن نتوجه إلى نتائج الأحداث التي حصلت في ذلك اليوم.

النتائج

وكما تذكر، رأينا سابقاً في هذا الدرس أن يسوع قال إن الروح القدس سيُمكّن الرسل حتى يكونوا شهوده الأتقياء. وهكذا، عندما نناقش نتائج يوم الخمسين، سنركز على الطريقة التي أعطى بها الروح القدس القوة للرسل واستخدم هذه القوة ليبارك انتشار إنجيل الملكوت. فلنبدأ بالطريقة التي أعطى بها الروح القدس القوة لبطرس الرسول.
عندما نستكشف إنجيل لوقا، نجد أن تفكير بطرس لم يكن واضحاً دائماً قبل حلول الروح القدس. حيث انتُهِرَ على جبل التجلي لأنه أراد أن يصنع مظالاً لموسى وإيليا. وأنكر المسيح ثلاث مرات في الليلة التي ألقي فيها القبض على الرب. حتى أثناء خدمة بطرس في سفر أعمال الرسل، لفت لوقا الانتباه إلى حقيقة أن بطرس لم يكن إنساناً متعلماً ولم يكن شخصاً نتوقع منه التكلم بطرق مقنعة. اصغ إلى كلمات لوقا في أعمال الرسل 4: 13:

فَلَمَّا رَأَوْا مُجَاهَرَةَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَوَجَدُوا أَنَّهُمَا إِنْسَانَانِ عَدِيمَا الْعِلْمِ وَعَامِّيَّانِ تَعَجَّبُوا. فَعَرَفُوهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا مَعَ يَسُوعَ. (أعمال الرسل 4: 13)

بعد أن رأينا هذه الصورة لبطرس، لا يوجد مجال للشك بأن قوة الروح القدس هي التي حوّلته ومكّنته من الوعظ برسالة فعّالة وناجحة للإنجيل في يوم الخمسين. فقد وبّخ بطرس في عظة يوم الخمسين أولئك الذين اتهموا المسيحيين بأنهم سُكارى. حيث اقتبس، شرح، وطبق العهد القديم بطرق مقنعة، موضحاً أن يسوع هو المسيَّا المُتَنَبأ عنه. كما ومكّن الروح القدس بطرس ورسلاً آخرين أيضاً من عمل معجزات كشهادة لحقيقة إعلاناتهم. كما نقرأ في أعمال الرسل 2: 43:

وَصَارَ خَوْفٌ فِي كُلِّ نَفْسٍ. وَكَانَتْ عَجَائِبُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُجْرَى عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ. (أعمال الرسل 2: 43)

في ضوء القوة العظيمة التي أعطاها الروح القدس لبطرس وللرسل الآخرين ليكونوا شهوداً لإعلان الإنجيل، فليس مدهشاً أن يبارك الله شهادة الرسل. اصغ إلى الطريقة التي وصف بها لوقا شهادتهم في أعمال الرسل 2: 41 و47:

فَقَبِلُوا كَلاَمَهُ بِفَرَحٍ وَاعْتَمَدُوا وَانْضَمَّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْسٍ… وَكَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ. (أعمال الرسل 2: 41 و47)

لقد آمن ثلاثة آلاف شخص في يوم الخمسين. وقد حصل هذا النمو الخارجي العددي من خلال قوة الروح القدس. لكن لم يكن نمو الكنيسة خارجياً فقط. بل كان هناك نموٌ داخليٌ نتج عن قوة الروح القدس أيضاً. اصغ إلى كلمات لوقا في أعمال الرسل 2: 42-47:

وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ… وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ. وَكَانُوا كُلَّ يَوْمٍ يُواظِبُونَ فِي الْهَيْكَلِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذْ هُمْ يَكْسِرُونَ الْخُبْزَ فِي الْبُيُوتِ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَلَهُمْ نِعْمَةٌ لَدَى جَمِيعِ الشَّعْبِ. (أعمال الرسل 2: 42-47)

لقد نمت الكنيسة داخلياً بينما عاش المسيحيون الأوائل طبقاً لتعاليم الرسل، مكرسين أنفسهم لخدمة الله وزملائهم المؤمنين. وقد كانت نتائج حلول الروح القدس في يوم الخمسين مذهلة في أيام الكنيسة الأولى.
بعد أن تعرضنا لمناقشة لوقا للروح القدس قبل يوم الخمسين وفي يوم الخمسين، نحن مستعدون للنظر إلى الطريقة التي عمل فيها الروح القدس بعد يوم الخمسين لتقوية خدمة الإنجيل.

بعد يوم الخمسين

لقد عاد لوقا عدة مرات في سفر أعمال الرسل إلى العمل الفعال للروح القدس بعد يوم الخمسين. وللتوضيح، سنركز على ثلاث من هذه الفقرات. أولاً، سنتطرق إلى حدث حصل في مدينة غير مُسماة في السامرة. ثانياً: سنركز على حدث في قيصرية. وثالثاً: سنتأمل في إظهار الروح القدس في أفسس. فلنتوجه أولاً إلى خدمة الروح القدس في السامرة في شمال أورشليم.
السامرة

لقد سجل لوقا في أعمال الرسل 8: 14-17 عن مرة أخرى حل فيها الروح القدس على المؤمنين بطريقة خاصة. اصغ إلى ما كتبه لوقا هناك:

وَلَمَّا سَمِعَ الرُّسُلُ الَّذِينَ فِي أُورُشَلِيمَ أَنَّ السَّامِرَةَ قَدْ قَبِلَتْ كَلِمَةَ اللهِ أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا. اللَّذَيْنِ لَمَّا نَزَلاَ صَلَّيَا لأَجْلِهِمْ لِكَيْ يَقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَلَّ بَعْدُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَمِدِينَ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ. حِينَئِذٍ وَضَعَا الأَيَادِيَ عَلَيْهِمْ فَقَبِلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. (أعمال الرسل 8: 14-17)

يحل الروح القدس على المؤمنين عادةً في سفر أعمال الرسل (كما في يومنا) عندما يأتون أولاً إلى الإيمان، وليس في وقت لاحق. ويُشبِه السيناريو هنا، من هذه الناحية، ما تم في يوم الخمسين: حيث قَبِلَ المؤمنون الروح القدس بعد تحولهم. لقد كان وقتاً خاصاً، عرضاً فعالاً لحلول الروح القدس. لماذا حل الروح القدس على السامريين بهذه الطريقة؟
في الواقع، إن أفضل تفسير لهذا الحلول الاستثنائي للروح القدس هو أنه ميّز المرة الأولى التي أتى فيها السامريين المتحولين إلى المسيحية في أعداد كبيرة. وكما تذكر، أرسل يسوع الرسل لينشروا ملكوت الله من أورشليم إلى اليهودية، السامرة، وإلى أقصى الأرض. لقد كانت أورشليم في اليهودية نقطة البداية في يوم الخمسين. لكن، كان السامريون من نسب مختلط، كونهم يهوداً وأمميين، ولم يعبدوا الرب طبقاً لتعاليم العهد القديم. ولهذا، عندما وصل الإنجيل إلى السامرة، فقد مثّل مرحلة جديدة، أي خطوة أساسيّة في تحقيق إرسالية يسوع لرسله. لقد كان أول انتشار أساسي للإنجيل عبر الحدود العرقية. وقد أعطى الروح القدس القوة لهؤلاء المؤمنين ليتكلموا بالألسنة حتى يشهدوا للرسل ولباقي الكنيسة أنه يمكن دمج السامرين في الكنيسة بشكل كامل.
بعد أن فهمنا عمل الروح في السامرة، علينا أن نتوجه إلى قيصرية، حيث حلّ الروح القدس مرة أخرى على الكنيسة بطرق مشابهة لما حدث في يوم الخمسين.

قيصرية

وكما حدث في المدينة غير المُسماة في السامرة، ميزت الحالة في قيصرية المرة الأولى التي عبر فيها الإنجيل حدوداً عرقية أخرى. وفي هذه الحالة، تحول الأمميين بأعداد كبيرة إلى المسيحية لأول مرة، وخاصةً، قائد المئة الروماني كرنيليوس وأهل بيته. سجل أعمال الرسل 10: 44-47، ما حدث عندما بشر بطرس كرنيليوس وأهل بيته:

فَبَيْنَمَا بُطْرُسُ يَتَكَلَّمُ … حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَى جَمِيعِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ. فَانْدَهَشَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ مِنْ أَهْلِ الْخِتَانِ، كُلُّ مَنْ جَاءَ مَعَ بُطْرُسَ، لأَنَّ مَوْهِبَةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ قَدِ انْسَكَبَتْ عَلَى الأُمَمِ أَيْضاً. لأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ وَيُعَظِّمُونَ اللهَ. حِينَئِذٍ أَجَابَ بُطْرُسُ … حَتَّى لاَ يَعْتَمِدَ هؤُلاَءِ الَّذِينَ قَبِلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ كَمَا نَحْنُ أَيْضاً. (أعمال الرسل 10: 44-47)

مرة أخرى، يظهر التشابه بين هذا الحدث ويوم الخمسين: حيث ابتدأ المؤمنون يتكلمون بالألسنة. وقد علق بطرس أيضاً أن المؤمنين في قيصرية قبلوا الروح القدس كما نحن أيضاً، ربما للإشارة إلى حلول الروح القدس في يوم الخمسين.
كان الأمم، في زمن العهد القديم، خارج عهود الله الخاصة بإسرائيل. وكان اليهود الأمناء يعزلون أنفسهم دائماً عن الأمم غير المؤمنين. وهكذا، كان أمراً مثيراً للدهشة للكنيسة الأولى عندما تحول الأمميون إلى المسيحية دون الحاجة أولاً للتحول إلى اليهودية بالكامل.
وبالتالي، فقد حل الروح القدس على كرنيليوس وأهل بيته بهذه الطريقة المذهلة للإشارة إلى أن الباب قد فُتِح أخيراً للأمميين. اصغ إلى هذه الكلمات من أعمال الرسل 11: 4، 15، 18 حيث سجل لوقا رد فعل الكنيسة على تحول الأمم:

فَابْتَدَأَ بُطْرُسُ يَشْرَحُ لَهُمْ بِالتَّتَابُعِ قَائِلاً… فَلَمَّا ابْتَدَأْتُ أَتَكَلَّمُ حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلَيْنَا أَيْضاً فِي الْبُدَاءَةِ… فَلَمَّا سَمِعُوا ذلِكَ سَكَتُوا وَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللهَ قَائِلِينَ إِذاً أَعْطَى اللهُ الأُمَمَ أَيْضاً التَّوْبَةَ لِلْحَيَاةِ. (أعمال الرسل 11: 4، 15، 18)

وبالحلول على الأمميين بطريقة مماثلة ليوم الخمسين، أظهر الروح القدس أن تحولهم كان صادقاً، وأن خطته لبناء ملكوت الله من خلال الأمميين قد بدأت.
بعد أن استعرضنا عمل الروح القدس في السامرة وفي قيصرية، نحن الآن مستعدون لنرى ما حدث في أفسس.
أفسس

إن هذا الحدث مسَجَّلٌ في أعمال الرسل 19: 1-6، حيث نقرأ السجل التالي:

بُولُسَ … جَاءَ إِلَى أَفَسُسَ. فَإِذْ وَجَدَ تَلاَمِيذَ قَالَ لَهُمْ هَلْ قَبِلْتُمُ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمَّا آمَنْتُمْ. قَالُوا لَهُ وَلاَ سَمِعْنَا أَنَّهُ يُوجَدُ الرُّوحُ الْقُدُسُ. فَقَالَ لَهُمْ فَبِمَاذَا اعْتَمَدْتُمْ. فَقَالُوا بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا. فَقَالَ بُولُسُ إِنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ قَائِلاً لِلشَّعْبِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ أَيْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَلَمَّا سَمِعُوا اعْتَمَدُوا بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ. وَلَمَّا وَضَعَ بُولُسُ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْهِمْ فَطَفِقُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ وَيَتَنَبَّأُونَ. (أعمال الرسل 19: 1-6)

مرة أخرى، نرى تشابهاً هاماً، مع يوم الخمسين. فبعد معموديتهم باسم يسوع، حل الروح القدس على هؤلاء الرجال، وتكلموا بالألسنة وتنبأوا.
وصف لوقا، في هذه الفقرة، حلولاً فعالاً للروح القدس في أفسس، وهي مدينة هامة في آسيا الصغرى، وبعيدة عن اليهودية والسامرة. وكما رأينا، تتبع لوقا امتداد عمل الروح القدس من أورشليم، إلى السامرة، وإلى الأمم. الأمر غير العادي هنا، هو أن الذين قبلوا الروح القدس كانوا تلاميذ يوحنا المعمدان. وكان من المفترض، أن هؤلاء هم يهود تائبون قَبِلوا بشهادة يوحنا المعمدان قبل إعلان يوحنا أن يسوع كان هو المسيَّا المنتظر.
سلّط لوقا الضوء على هذا الحدث، لأنه أعطى نهاية لقضية سبق وأكّدها في بداية السفر: وهي العلاقة بين يوحنا المعمدان ويسوع. ستتذكر في أعمال الرسل 1: 5، أن يسوع قارن خدمته بخدمة يوحنا المعمدان بهذه الطريقة:

لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالْمَاءِ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ لَيْسَ بَعْدَ هذِهِ الأَيَّامِ بِكَثِيرٍ. (أعمال الرسل 1: 5)

لقد أشارت قصة حلول الروح القدس على تلاميذ يوحنا في أفسس، بأن عمل المسيح في إحضار الروح القدس وصل مستوىً جديداً. حتى تلاميذ يوحنا كان عليهم أن يصبحوا أتباعاً للمسيح، وأن يقبلوا روح المسيح. ولم يكن أي شيء أقل من الإيمان بالمسيح كلياً والعيش بقوة الروح القدس، منسجمٌ مع مشيئة الله.
لقد أوضح لوقا أنه كلما عمل الرسل على تقدّم إرساليّة الكنيسة، كان عملهم في انتشار الملكوت مُؤيّدًا باستمرار بحلولٍ فعّال للروح القدس. فمن خلال قوة الروح القدس، انتشر الإنجيل دون عوائق من أورشليم، إلى اليهودية والسامرة، وإلى أقصى الأرض. وحتى في يومنا، إن قوة الروح القدس هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تتغيّر بواسطتها الكنيسة وتعمل على نشر الإنجيل بشكلٍ فعّال. فنحن أيضًا يجب أن نسعى للاتكال على قوةِ الروح القدس حتى نحيا بتقوى ونكون شهودًا مؤثّرين لرسالة الإنجيل.

الرسل

بعد أن تعرفنا على دور الروح القدس، نحن الآن مستعدون لدراسة موضوعنا الثاني: وهو الرسل. قبل صعوده إلى السماء، عيّن المسيح الرسل حتى يستمروا في خدمته، لينشروا ملكوته من أورشليم إلى أقصى الأرض بواسطة الإنجيل. لقد رأينا سابقاً في هذا الدرس أن أعمال الرسل 1: 8 يصف الدور الحيوي الذي لعبه الروح القدس في الكنيسة الأولى. استمع مرة أخرى لكلمات يسوع لرسله:

لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ. (أعمال الرسل 1: 8)

سنركز في هذه النقطة من درسنا، على مسألة ثانية تظهر في هذه الآية: وهي دور الرسل. كما قال يسوع هنا، لقد أُعطي الروح القدس للرسل ليكونوا شهوداً له في جميع أنحاء العالم.
في الكنيسة الأولى، عُرف مَن شهدوا للإنجيل في ظروف قاسية باسم “الشهداء” أو “الشهود”. وفي معظم الحالات الشديدة القسوة، تم تعذيب الشهود أو حتى قتلهم بسبب شهادتهم للمسيح. ففي الواقع، يخبرنا تقليد الكنيسة أن معظم الرسل ماتوا بهذه الطريقة. اهتم لوقا بشكل بارز بموضوع الشهادة للمسيح في وجه المقاومة عندما كتبَ عن الكنيسة الأولى. وفي هذا الصدد، لم يَفُق أحدٌ الرسلَ كشهودٍ شجعانٍ وفعالين للمسيحِ.
سنركز على ثلاثة أبعاد لدور الرسل كشهود للمسيح. أولاً، سنشير إلى أن شهادتهم كانت فريدة من نوعها. ثانياً، سنرى أن شهادتهم ذات سلطان. وثالثاً، سننظر إلى الطبيعة المتنوعة لشاهدتهم، أي الطريقة التي استخدموا فيها وسائل مختلفة لتقديم رسالة الإنجيل. فلنبدأ بالمؤهلات الفريدة للرسل للقيام بوظيفتهم.

فريدة

كان الرسل شخصيات فريدة لسببين على الأقل. أولاً، استثنت متطلبات القيام بوظيفتهم أي شخص آخر من أن يُدعى رسولاً.

المتطلبات

كلنا نعلم أن يهوذا الإسخريوطي، أحد الرسل الاثني عشر الذين اختارهم يسوع، سلّم الرب لمن صلبوه. لاحقاً، قتل يهوذا نفسه، تاركاً أحد عشر رسولاً فقط. بعد ذلك، وبعد صعود يسوع إلى السماء، كان أحد أول أولويات الأحد عشر رسولاً، أن يختاروا الرسول الثاني عشر ليحل محل يهوذا.
وصف بطرس متطلبات الرسول الجديد، في أعمال الرسل 1: 21-26 بهذه الطريقة:

فَيَنْبَغِي أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا مَعَنَا كُلَّ الزَّمَانِ الَّذِي فِيهِ دَخَلَ إِلَيْنَا الرَّبُّ يَسُوعُ وَخَرَجَ … يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَاهِداً مَعَنَا بِقِيَامَتِهِ. فَأَقَامُوا اثْنَيْنِ… وَصَلَّوْا قَائِلِينَ أَيُّهَا الرَّبُّ … عَيِّنْ أَنْتَ مِنْ هذَيْنِ الاثْنَيْنِ أَيّاً اخْتَرْتَهُ. لِيَأْخُذَ قُرْعَةَ هذِهِ الْخِدْمَةِ وَالرِّسَالَةِ… ثُمَّ أَلْقَوْا قُرْعَتَهُمْ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى مَتِّيَاسَ فَحُسِبَ مَعَ الأَحَدَ عَشَرَ رَسُولاً. (أعمال الرسل 1: 21-26)

تبني هذه الآيات متطلبات وظيفة الرسول، والتي كانت كلها فريدة للرسل المذكورين في الكتاب المقدس. أولاً، لابد أن يكونوا قد تتلمذوا على يد يسوع نفسه. ثانياً، لابد أن يكونوا قد رأوا يسوع بعد قيامته. وثالثاً، لابد أن يتم تعيينهم لوظيفتهم من الله نفسه. لقد استوفى الرسل الأحد عشر هذه المتطلبات لأنهم تتلمذوا على يد يسوع أثناء خدمته الأرضية، رأوه بعد قيامته، وتم تعيينهم من قِبَل يسوع نفسه.
وقد استوفى َمَتِّيَاسَ هذه المتطلبات لأنه هو أيضاً قد تتلمذ على يد يسوع أثناء خدمته الأرضية، رأى الرب بعد قيامته، وتم اختياره من الله مباشرة من خلال القرعة التي ألقاها الرسل.
بعد َمَتِّيَاسَ، تم تعيين شخص واحد آخر فقط لوظيفة رسول في الكتاب المقدس: وهو بولس. فقد تم اختيار بولس كرسول بعد صعود يسوع إلى السماء، ولهذا شككت الكنيسة أصلاً في صحة تعيينه. لكن يعلمنا الكتاب المقدس أنه في الحقيقة رأى يسوع وتعلم منه بعد قيامته، وأنه تم تعيينه فعلاً من قِبَل يسوع نفسه.
على سبيل المثال، شَهِدَ بولس الرب المُقام في الطريق إلى دمشق، كما سجل لوقا في أعمال الرسل 9: 3-6. تم تعيينه أيضاً لوظيفته من قِبَل الله نفسه كما نقرأ في أعمال الرسل 9: 15، و22: 12-16. في الواقع، كرر لوقا تعيين بولس ثلاث مرات، ليُثبِت ادعاءه أنه كان رسولاً حقيقياً في أعمال الرسل 9، 22، و26.
ولكن حتى بولس نفسه اعترف أن مؤهلاته كانت نوعاً ما غير عاديّة، بما أنه لم يقبل الإيمان إلا بعد صعود يسوع. ذكر بولس رسوليته الخاصة والفريدة في رسالة 1 كورنثوس 15: 8-9:

وَآخِرَ الْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا. لأَنِّي أَصْغَرُ الرُّسُلِ. (1 كورنثوس 15: 8-9)

الزمن التأسيسي

بالإضافة إلى تلبية هذه المتطلبات الفريدة، كان الرسل فريدين لأنهم خدموا في الزمن التأسيسي في حياة الكنيسة. وتم تعييهنم في ذلك الوقت الخاص لمهمة تأسيس كنيسة يسوع المسيح. ولأنهم قاموا بمهمتهم، ولأن الكنيسة رسخت ثابتة على أساسهم، لم يكن هناك بعد ذلك حاجة لمهمتهم الخاصة أبداً.
أشار لوقا للعديد من الطرق التي خدم فيها الرسل كأساس للكنيسة. وكما رأينا في درس سابق، كان الرسل الشهود الأساسيين الذين حَمَلوا الإنجيل من أورشليم، إلى اليهودية والسامرة، وإلى أقصى الأرض. ومن خلال تبشيرهم، تم رِبح المتحولين المسيحيين الأوائل من اليهودية، من العبادة الفاسدة للسامريين، ومن الوثنية الأمميّة. ومن خلال قيادتهم، تم تأسيس الكنائس الأولى في التاريخ، ومن خلالهم تَبِعت الكنيسة هذا النموذج. بهذه الطرق وأخرى كثيرة، قام الرسل بعمل فريد في وقت فريد في حياة الكنيسة. ولن تتكرر هذه الأزمنة مرة أخرى، ولن يكون هناك حاجة لإتمام هذا العمل مرة أخرى أبداً. في أفسس 2: 19-20، لخّص بولس الدور التأسيسي الفريد للرسل بهذه الطريقة:

وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ. (أفسس 2: 19-20)

لن يكون هناك حجر آخر للزاوية، ولن يكون هناك يسوع آخر. وبنفس الطريقة، لن يكون هناك أساس آخر، ومجموعة أخرى من الرسل والأنبياء الذين يخدمون كأساس للكنيسة.
للأسف، لا يزال يوجد كنائس في يومنا تدّعي وجود خدمة رسل ذوو سلطان بينهم. ومع ذلك، أوضح لوقا بأن الرسل الأصليين كانوا مؤهلين بشكل فريد لمتطلبات وظيفتهم، وخدموا في زمن تأسيسي فريد لا يمكن تكراره أبداً. مازالت لدينا شهادة الرسل مجموعة في كتابات العهد الجديد، ولكن يجب ألا نتوقع هذا النوع من الرسل في الكنيسة اليوم.

ذو سلطان

بعد أن رأينا أن الرسل شهدوا للمسيح بطريقة فريدة، نحن الآن مستعدون للنظر إلى طبيعة شهادتهم ذات السلطان. يتضح لنا سلطان الرسل في سفر أعمال الرسل من خلال عدة طرق، ولكن للتبسيط سنركز على أربعة طرق فقط. أولاً، يمكن رؤية سلطان الرسل في أدائهم لوظيفتهم. ثانياً، يتضح من خلال بركات الرب لخدمتهم. ثالثاً، يتبرهن من خلال قدرتهم على صنع المعجزات. ورابعاً، يتضح من خلال الإعلان الذي استمروا في استلامه. فلنتفحص أولاً كيف اتضح سلطانهم من خلال أدائهم لوظيفتهم.

الأداء

تعني كلمة رسول، أو apostolos باللغة اليونانية، الشخص المُرْسَل. وكانت تستخدم بشكل عام للإشارة إلى المُرسَلين، إلى الوكلاء المُرسَلين لإنجاز المهمات، وإلى السفراء ذوو السلطان للتكلم نيابةً عمن أرسلوهم. على سبيل المثال، عندما عيّن يسوع اثنا وسبعون رسولاً ليبشروا عن ملكوت الله في لوقا 10، كان هؤلاء سفراء مؤقتين، مُعينين ليمارسوا جزءاً من سلطان المسيح لفترة من الوقت. كلّف يسوع المُرسَلين في لوقا 10: 16 بهذه الكلمات:

اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي. وَالَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي. وَالَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي. (لوقا 10: 16)

نرى هنا أنه كان ينبغي معاملة المُرسَلين كنوّاب للمسيح. من قَبِلَهُم قَبِلَ المسيح، ومن قَبِلَ المسيح قَبِلَ من أرسله، الله الآب. علاوة على ذلك، اصغ إلى المناقشة التي حصلت عندما عاد المُرسَلين في لوقا 10: 17-19:

فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ يَارَبُّ حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ. فَقَالَ لَهُمْ رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطاً مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ. هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ. (لوقا 10: 17-19)

عندما عيّن يسوع الإثنا وسبعون ليكونوا مُرسَلين له، أعطاهم جزءاً من سلطانه. وهكذا لم يكن تمثيلهم له رمزياً ببساطة. إلا أنهم كانوا وكلاء ذوو السلطان. ولم يكونوا معلمين معصومين عن الخطأ، لكن كان لديهم السلطان لإخراج الشياطين، وللإعلان عن مجيء الملكوت.
وبشكل مماثل، كان الرسل سفراء ذوو السلطان. لكن اختلف تمثيلهم للمسيح عن التلاميذ الآخرين بطريقتين هامّتين في سفر أعمال الرسل. أولاً، توضح قصص لوقا أن الرسل لم يتم تعيينهم لإرسالية نشر الإنجيل فقط، لكن تم تعيينهم لوظيفة في الكنيسة بشكل دائم. ولم يحل محل الرسل أشخاص آخرين أو وظائف أخرى في سفر أعمال الرسل. فقد حملوا سلطان يسوع المفوّض لهم بشكل دائم، وليس لفترة محدودة فقط. وثانياً، كان الرسل مخولين للتكلم في جميع الأمور المتعلقة بتأسيس كنيسة المسيح وإدارتها. كما يشير سجل مجمع أورشليم في أعمال الرسل 15، كان ينبغي قبول كلمة الرسل من قِبَل الكنيسة ككل. ومهما كانت الأحكام التي قدموها، ينبغي قبولها على أنها مشيئة الله. اصغ إلى الطريقة التي وصف بها بطرس السلطان الرسولي في رسالته الثانية 3: 2:

لِتَذْكُرُوا … وَوَصِيَّتَنَا نَحْنُ الرُّسُلَ، وَصِيَّةَ الرَّبِّ وَالْمُخَلِّصِ. (2 بطرس 3: 2)

كما يشير بطرس هنا، كان ينبغي قبول كلمات الرسل لأنهم كانوا خداماً أمناء لمشيئة يسوع وتعاليمه.
بعد أن وصفنا أداء الرسل لوظيفتهم، يجب أن نتوجه إلى الطريقة التي بارك بها الله خدمتهم الخاصة والفريدة من خلال انتشار الإنجيل.

البركة

لقد بارك الله الرسل، في سفر أعمال الرسل، بإعطائهم متحولين تقريباً في كل مرة بشروا بالإنجيل. وكما رأينا سابقاً، وسّعت عظة بطرس الكنيسة في يوم الخمسين من حوالي مئةٍ وعشرون شخصاً إلى أكثر من ثلاثة آلاف. واستمر هذا النوع من البركة في جميع أنحاء سفر أعمال الرسل.
كان لوقا، كمؤلف، حريصاً على تعليم قرّائه بأن هذا النمو الخارجي العددي للكنيسة دليل على موافقة الله وقوته. وكانت إحدى الطرق التي حقق بها ذلك، باقتباس كلمات الفريسي الموقر غمالائيل. تكلم غمالائيل في أعمال الرسل 5: 38-39 بهذه الكلمات أمام المجمع عن الرسل:

تَنَحَّوْا عَنْ هؤُلاَءِ النَّاسِ وَاتْرُكُوهُمْ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ هذَا الرَّأْيُ أَوْ هذَا الْعَمَلُ مِنَ النَّاسِ فَسَوْفَ يَنْتَقِضُ. وَإِنْ كَانَ مِنَ اللهِ فَلاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنْقُضُوهُ. لِئَلاَّ تُوجَدُوا مُحَارِبِينَ للهِ أَيْضاً. (أعمال الرسل 5: 38-39)

ومن هذا المنظور، إن خدمة الرسل بالإنجيل المباركة في جميع أنحاء سفر أعمال الرسل هي دليل على أن الروح القدس أعطى هذه الخدمة القوة وثبّتها.
بالإضافة إلى البرهان المثبت بواسطة أداءهم ومباركة الله العددية لخدمة الإنجيل، يمكن رؤية سلطان الرسل أيضاً في المعجزات المرافقة لخدمتهم.

المعجزات

إن إحدى وظائف المعجزات، خلال الكتاب المقدس، هي إثباتُ أن مُرسَليّ الله يتكلمون الحق ويحملون سلطان الله المفوّض لهم. فقد قام موسى، في سفر الخروج، بالعديد من المعجزات أمام فرعون ليثبت أنه يتكلم باسم الإله الحقيقي. وقام إيليا وأليشع في سفري الملوك الأول والثاني، بمعجزات أكدت أن نبؤاتهم وتعاليمهم كانت من عند الله. كما وصنع يسوع المعجزات في الأناجيل الأربعة، ليبرهن أنه هو المسيح، أي خادم الله الممسوح ونبيه الذي أُرسِلَ ليخلص شعبه ويَملُك عليهم.
وبنفس الطريقة، أثبتت معجزات الرسل في سفر أعمال الرسل أن شهادتهم المتعلقة بالمسيح هي الحق. فقد شفى الرسل المرضى في أعمال الرسل 5: 16. شفوا المقعد في أعمال الرسل 14: 8. أقاموا الموتى في أعمال الرسل 9: 40. لعنوا الأشرار في أعمال الرسل 13: 11. نجوا من السجن في أعمال الرسل 12: 10. نجوا من تَحَطُم السفينة في أعمال الرسل 27: 44، ومن الحيّات السامة في أعمال الرسل 28: 3. في الواقع، بلغت قوتهم درجة عظيمة حتى كان ظل بطرس يشفي من يلمسه في أعمال الرسل 5: 15. هذا ويخبرنا أعمال الرسل 19: 11-12 أن الثياب التي كان يلمسها بولس كانت تكتسب قوة إخراج الشياطين وشفاء المرضى. ولا يمكن أن تأتي هذه المعجزات القوية إلا من الله، مُبرهنة أن الرسل هم شهود الله ذوو السلطان فعلاً. لهذا السبب صنّف بولس معجزاته بهذه الطريقة في رسالة 2 كورنثوس 12: 12:

إِنَّ عَلاَمَاتِ الرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ صَبْرٍ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ. (2 كورنثوس 12: 12)

كانت الأعمال المعجزية المُمَكّنة من الروح القدس علامة الرسول، أي الدليل أنه كان يشهد بحق للمسيح وعمله.
بعد أن تعرفنا على أداء الرسل، مباركة الرب لانتشار الإنجيل من خلالهم، ومعجزاتهم، نحن مستعدون لنرى كيف أن الإعلان الذي تسلموه خدم كبرهان لسلطانهم.

الإعلان

لقد سجل لوقا عدة مرات أن الروح القدس أرشد الرسل، وقادهم ليبشروا بالإنجيل، ليصنعوا القرارات للكنيسة ككل، ووضع العناصر الهيكلية التي سمحت للكنيسة لتنمو وتنضج. على سبيل المثال، تلقّى بطرس في أعمال الرسل 10، رؤية من الله علمته ليأتي بالأمميين إلى الكنيسة دون الحاجة لتَحَوُّلٍ كامل إلى اليهودية. وتلقّى بولس في أعمال الرسل 16، رؤية بأن عليه أن يعلن الإنجيل في مقدونية، موسّعاً انتشار إنجيل الملكوت بشكل عظيم.
بالنسبة لقرّاء لوقا الأصليين، ولبقية الكنيسة الأولى، كانت وظيفة الرسل الرسمية، وبركتهم في الخدمة، ومعجزاتهم المؤيّدة لهم، وإعلانهم أدلّة مقنعة لسلطانهم غيرَ المشكوكِ به. وكما سجل لوقا في كل سفر أعمال الرسل، تجاوبت الكنيسة الأولى مع شهادة الرسل ذات السلطان وقيادتهم، بقبول كل تعاليمهم وأحكامهم والخضوع لها. وبنفس الطريقة، يجب أن يخضع المؤمنين المعاصرين لسفراء المسيح من لهم السلطان، من خلال كل من ملخصات تعاليمهم في الكتاب المقدس مثل سفر أعمال الرسل، ومن خلال كتاباتهم ذات السلطان في العهد الجديد.
بعد أن بحثنا في طبيعة شهادة الرسل الفريدة وذات السلطان، نحن مستعدون للنظر إلى الطرق المتنوعة التي كانوا بها هم وأتباعهم شهود بإنجيل المسيح للعالم.

المتنوعة

ستنقسم مناقشتنا للطرق المتنوعة التي شَهِدَ بها الرسل وأتباعهم للمسيح خلال سفر أعمال الرسل إلى قسمين. أولاً، سنتأمل في الاستراتيجيات المتنوعة التي استُخدِمت للشهادة للمسيح. وثانياً، سنذكر العديد من الإطارات المتنوعة التي قدموا فيها شهادتهم. فلننظر أولاً إلى الاستراتيجيات المتنوعة التي استخدموها في سفر أعمال الرسل.

استراتيجيات

رغم وجود طرق لا حَصَر لها لوصف الاستراتيجيات التي استخدمها الرسل وأتباعهم في تقديم المسيح للعالم، من المساعد أن نفكر في ستة اقترابات رئيسية: أولاً، غالباً ما استعان الرسل بالتاريخ، خاصة عندما كانوا يشيرون لأمور مثل حياة المسيح، موته، وقيامته، وهي أحداث من التاريخ مسجلة من خلال الإمبراطورية الرومانية. على سبيل المثال، قال بولس في أعمال الرسل 26: 26، هذه الكلمات للملك أَغْرِيبَاسُ:

لأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ هذِهِ الأُمُورِ عَالِمٌ الْمَلِكُ الَّذِي أُكَلِّمُهُ جِهَاراً إِذْ أَنَا لَسْتُ أُصَدِّقُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ. لأَنَّ هذَا لَمْ يُفْعَلْ فِي زَاوِيَةٍ. (أعمال الرسل 26: 26)

إن نقطة بولس الرئيسية، في هذه الفقرة، هي أن الحقائق الأساسية التي أعلنها هو والكنيسة هي أحداث معروفة في العالم القديم. وكانت الاستعانة بأحداث تاريخية كهذه، استراتيجية عامة استخدمها الرسل عندما شَهِدوا لغير المؤمنين.
ثانياً، استعان الرسل مراراً بحقائق الأسفار المقدسة لدعم محاولاتهم التبشيرية. واستعانوا بالعهد القديم غالباً عند الشهادة للقرّاء اليهود. على سبيل المثال، استعان بطرس في أعمال الرسل 3: 22 بكلمات موسى ليثبت لليهود أن يسوع هو المسيَّا المُنتَظَر. واستعان بولس في أعمال الرسل 23: 6 بمعتقدات اليهود بقيامة الموتى المأخوذة من أسفار العهد القديم.
ثالثاً، استعان الرسل بإعلان الله في الطبيعة وبالمعتقدات الحقيقية التي يمكن إيجادها في أنظمة المعتقدات الوثنية عند الشهادة للقرّاء الأمميين. على سبيل المثال، استخدم بولس في أعمال الرسل 17: 24-27 وجهات نظر وثنية شائعة عن الله والتاريخ الإنساني كنقطة انطلاق لتقديم الإنجيل في أثينا. استمع لكلماته:

الإِلهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ هذَا إِذْ هُوَ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِالأَيَادِي. وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي النَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ إِذْ هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ. وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ. لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً. (أعمال الرسل 17: 24-27)

لقد استخدم بولس وجهة نظر معروفة ليس فقط للمسيحيين واليهود ولكن أيضاً للكثير من الوثنيين. في الواقع، اشار بولس للأدب الوثني في عظته في أَرِيُوسَ بَاغُوسَ في أثينا. اصغ لما قاله في أعمال الرسل 17: 28:

لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضاً لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ. (أعمال الرسل 17: 28)

استعان بولس هنا بكتابات الشعر اليوناني ليبني عليها شهادته للمسيح في أثينا.
رابعاً، استعان الرسل غالباً بالخبرات الشخصية عند تقديم المسيح للآخرين. وسجل لوقا عدة مرات في سفر أعمال الرسل، أن بولس استخدم اقترابه. على سبيل المثال، أشار بولس لخبرة تحوله الفعالة في طريقه إلى دمشق، والتي سجلها لوقا في أعمال الرسل 9. حيث أعاد سرد هذه الخبرة أمام الشعب اليهودي في أورشليم في أعمال الرسل 22، ووصفها للملك أَغْرِيبَاسُ في أعمال الرسل 26.
خامساً، قام الرسل بالعديد من الآيات والعجائب التي أثبتت حقيقة الإنجيل التي بشروا بها. وكما رأينا سابقاً في هذا الدرس، إن سفر أعمال الرسل مليءٌ بالمعجزات التي قام بها الرسل. وكلما مكّن الروح القدس الرسل من صنع المعجزات، قام بذلك ليدعم شهادتهم ليسوع المسيح.
وسادساً، شهد الرسل من خلال ولاءهم الثابت للمسيح. كان الرسل يستخدمون باستمرار الاهتمام الذي حصلوا عليه لإرشاد الناس للمسيح، ورفضوا أن يتخلوا عن دعوة المسيح حتى عندما تم اضطهادهم أو تهديدهم. على سبيل المثال، عندما أراد شعب مدينة لِسْتِرَةَ في أعمال الرسل 14 أن يعبدوا بولس وبرنابا، أصّر بولس على أنه مجرد أنسان، ثم أرشد هذا الشعب إلى الرب. وعندما هدد المجمع الرسل في أعمال الرسل 4 وأمروهم أن يتوقفوا عن التبشير، رفض الرسل أن يفعلوا ذلك. كما نقرأ في أعمال الرسل 5: 28-29:

قِائِلاً [رئيس الكهنة] أَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ وَصِيَّةً أَنْ لاَ تُعَلِّمُوا بِهذَا الاسْمِ… فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَالرُّسُلُ وَقَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ. (أعمال الرسل 5: 28-29)

استخدم الرسل استراتيجيات متنوعة عندما شَهِدوا للإنجيل. ودرّبوا الكنيسة الأولى للقيام بنفس الأمر من خلال نموذجهم وتعاليمهم. ويجب أن تشجع ميزة سجل لوقا في سفر أعمال الرسل المسيحيين في كل زمان أن يبحثوا في الاستراتيجيات التي يريدنا الله أن نتبعها عندما نخدم نحن أيضاً كشهود للإنجيل.
بالإضافة إلى هذه الاستراتيجيات المتنوعة التي استخدمها الرسل ليشهدوا للمسيح، لابد أن نأخذ بعين الاعتبار الإطارات المتنوعة التي شهدوا فيها باسم المسيح.

الإطارات

يوجد العديد من الطرق التي يمكننا أن نلخص بها الإطارات المتنوعة التي شهد فيها الرسل للإنجيل في سفر أعمال الرسل. ولكن للتبسيط، سنُصنف هذه الإطارات إلى أربعة فئات رئيسية. أولاً، كان هناك الخُطَب العامة. ونقصد بها الأحداث التي خاطب بها الرسل مجموعة كبيرة من الناس في إطار عام، سواء كان في العظات، الخُطَب الدفاعيّة، أو أنواع أخرى من الخُطَب. حَرَصَ الرسل في هذه الأنواع من العروض، على اختيار كلماتهم طبقاً للجمهور المُخَاطَب. وكما رأينا سابقاً في هذا الدرس، تكلم الرسل مع اليهود بطريقة معيّنة ومع الأمميين بطريقة أخرى.
ثانياً، شهد الرسل في سياق الحوار أو المناقشة. ويدعى الشعب، في هذا الإطار، لإعطاء الحجج المَضادة، وكان متوقَعَاً من الرسل أن يدافعوا عن الإنجيل. على سبيل المثال، ناقش بولس في أعمال الرسل 19، في قاعة المحاضرات في مدرسة تِيرَانُّسُ، وهي مكان في أفسس حيث كان يُفحَص فيها المهارات البلاغية والأفكار الجديدة أمام الشعب.
ثالثاً، غالباً ما شهد الرسل وأتباعهم في الأُسَر في سفر أعمال الرسل. وكانت الأُسَر في العالم القديم عادة تضم أكثر من مجرد الأهل وأطفالهم. كثيراً ما كان هناك أقرباء، أصدقاء، وخدم الأُسَرة. وهكذا، عندما نقرأ عن الأُسَر في سفر أعمال الرسل، علينا أن نتصوّر الأقرباء مثل الأطفال، الأجداد، الأعمام والعمات، وأيضاً العاملين والخدم، وفي حالات كثيرة حتى العبيد. وكان متوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة حوالي خمسة عشرة إلى عشرين شخصاً. ونجد أمثلة عن شهادة الرسل في الأُسَر في عدة أماكن في سفر أعمال الرسل، مثل إصحاح 10، حيث خاطب بطرس أهل بيت كَرْنِيلِيُوسُ؛ وفي إصحاح 16، حيث خاطب بولس أسرتي ليديا وسجان فيلبي.
ورابعاً، يحتوي سفر أعمال الرسل أيضاً على أمثلة للتبشير الشخصي كنوع من أنواع الشهادة. على سبيل المثال، تكلم بولس في أعمال الرسل 25، مع الملك أَغْرِيبَاسُ كفرد، مصمماً كلماته خصيصاً لتناسب معرفة أَغْرِيبَاسُ وخبرته.
باختصار، لم يقيّد الرسل أنفسهم للشهادة بطرق محددة أو في أوضاع معينة. فبينما نفحص سفر أعمال الرسل، نجد أنهم يستغلون كل فرصة، مقدمين الإنجيل بطرقٍ تناسب كل القرّاء. وبهذا، يقدّم لنا الرسل نموذجًا، يعلمنا أن نؤكد على عناصر الإنجيل التي يتردد صداها بقوة مع مستمعينا، وأن نجد طرق معينة لربط الإنجيل بحياة كل شخص غير مؤمن.

الكنيسة

بعد أن نظرنا إلى مواضيع الروح القدس والرسل، ننتقل الآن إلى موضوعنا الرئيسي الثالث في سفر أعمال الرسل: الكنيسة التي أسسها الرسل.
سنستكشف موضوع الكنيسة بطريقتين. أولاً، سننظر إلى ضرورة وجود الكنيسة. وثانياً، سننظر إلى الإعداد الذي تسلمته الكنيسة من الرسل حتى تستكمل عملهم. فلننظر أولاً إلى ضرورة وجود الكنيسة.

الضرورة

كلّف المسيح الرسل بمهمة بناء كنيسته. لماذا؟ فقد أدرك الرسل أن عددًا قليلاً من الرجال لا يمكنهم نقل رسالة المسيح إلى العالم أجمع بمفردهم؛ فهم بحاجة إلى جيش من الشهود لإعلان إنجيل الملكوت في كل مكان.
سننظر إلى اثنين من العوامل التي جعلت الكنيسة ضرورية لتحقيق إرسالية الرسل. أولاً، سنتأمل في الحدود الجسدية للرسل؛ أي الحقيقة بأنهم غير قادرين جسدياً على تحقيق المهمة المطلوبة منهم. وثانياً، سننظر إلى الحدود الزمنية، أي الحقيقة بأنهم سيعيشون امتداد حياتهم البشرية العادية، ولن يتمكنوا من الشهادة لأجيال المستقبل. فلنبدأ بالحدود الجسدية للرسل.

الحدود الجسدية

كما رأينا سابقاً، كان عمل الرسل أن يشهدوا للمسيح عن طريق إعلان الإنجيل. لكنهم لا يقدروا بمفردهم أن يكونوا “رسائل حية” إلى العالم أجمع. لحل هذه المشكلة، وزع الرسل جزءاً كبيراً من مسؤولية كونهم شهود أصليين على الكنيسة. فعندما تم إضافة المؤمنين إلى الكنيسة من خلال تبشير الرسل، أصبح هؤلاء المؤمنون أيضاً “رسائل حية” في حد ذاتهم. لقد عاشوا حسب الإنجيل وشَهِدوا بذلك ليسوع أمام عائلاتهم وجيرانهم. حتى أصبح بعضهم مُرسَلين ومبشرين.
وبهذه الطريقة، أسس الرسل تفس النموذج المتكرر للتبشير الأصلي في كل جيل، وكانت الكنيسة نفسها تقوم بمعظم العمل. ومؤكدٌ أن الكنيسة لم تتمكن من التبشير بنفس السلطان والتأكيد المعجزي الذي صاحب وعظ الرسل. ومع ذلك، كان الروح القدس لا يزال مسروراً أن يعمل من خلال الشهادة الأصلية للكنيسة في الحياة والكلمة، وأن يحول العديد من المؤمنين الجدد من خلال الوسيلة. على سبيل المثال، اصغ لما يقوله أعمال الرسل 11: 19-21 عن المؤمنين الذين تشتتوا بسبب الاضطهاد:

فَاجْتَازُوا إِلَى فِينِيقِيَةَ وَقُبْرُسَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَهُمْ لاَ يُكَلِّمُونَ أَحَداً بِالْكَلِمَةِ إِلاَّ الْيَهُودَ فَقَطْ. وَلكِنْ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ … دَخَلُوا أَنْطَاكِيَةَ كَانُوا يُخَاطِبُونَ الْيُونَانِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ. وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُمْ فَآمَنَ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَرَجَعُوا إِلَى الرَّبِّ. (أعمال الرسل 11: 19-21)

بعد أن فحصنا الحدود الجسدية للرسل، علينا أن ننظر في الحدود الزمنية الناتجة عن عُرضتهم للموت.

الحدود الزمنية

كان الرسل مقتنعين أن يسوع سيعود مرة أخرى، لكنهم لم يعرفوا متى. فعندما قتل الملك هيرودس الرسول يعقوب في أعمال الرسل 12، اتضح لهم أن بعضهم على الأقل لن يعيش حتى يعود المسيح. وهكذا، درّب الرسل الكنيسة ليس فقط للتبشير تحت الإشراف الرسولي المباشر، ولكن ليكملوا أيضاً بناء الكنيسة بعد موت الرسل. على سبيل المثال، اصغ لكلمات بولس لشيوخ أفسس في أعمال الرسل 20: 25-28:

وَالآنَ هَا أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَ وَجْهِي أَيْضاً … اِحْتَرِزُوا اِذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ اللهِ الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِهِ. (أعمال الرسل 20: 25-28)

لقد أراد بولس أن يتأكد من استمرار الكنيسة في الاعتماد على المسيح لنشر الإنجيل بطرق أصلية، ولمساعدة المؤمنين ليصبحوا ناضجين. وهكذا، تأكد بولس من استعداد قادة الكنيسة للاستمرار في خدمتهم بعد موته. وبسبب الحدود الجسدية والزمنية للرسل، كانت الكنيسة مركزية لاستراتيجيات الرسل القصيرة والطويلة الأمد من أجل تقدم ملكوت الله.
بعد أن تحدثنا عن ضرورة وجود الكنيسة من أجل الشهادة الأصلية، علينا أن ننتقل إلى إعداد الرسل للكنيسة.

الإعداد

هناك العديد من الطرق التي أعدّ بها الرسل الكنيسة للاستمرار في إرسالية نشر ملكوت الله. ولكن لضيق الوقت سنتعرض لثلاثة اعتبارات: أولاً، سننظر إلى حقيقة أن الرسل علموا الكنيسة أن تبقى أمينة لتعاليم الرسل، والذي يتضمن شهادتهم الأمينة ليسوع. ثانياً، سنستكشف احتياطات الرسل لتعيين قادة للكنيسة مثل الشيوخ والشمامسة. وثالثاً، سنرى كيف أعّد الرسل الكنيسة لتتحمل الصعوبات التي ستأتي حتماً. سنتعرض أولاً للتعاليم التي نقلها الرسل للكنيسة.

التعليم

وصف بولس الرسول في أفسس 2 الكنيسة كالبناء، الذي بُني على المسيح كحجر الزاوية وعلى الرُسل والأنبياء كالأساس. اصغ لكلمات بولس في أفسس 2: 19-20:

[أنتم] … رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ. (أفسس 2: 19-20)

لاحظ هنا أن بولس لم يفكر فقط بأن الرسل هم القادة الأصليين للكنيسة، لكن بأن تعاليمهم هي أساس الكنيسة، وقاعدة معتقداتها. وصف بولس في أفسس 3: 4-5 الدور التأسيسي لتعليمه بهذه الطريقة:

تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ الْمَسِيحِ الَّذِي فِي أَجْيَال أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ. (أفسس 3: 4-5)

لهذا السبب حرص لوقا أن يُسلط الضوء في سفر أعمال الرسل على حقيقة أن الكنيسة كرست نفسها لتعاليم الرسل. حيث سجل في أعمال الرسل 2: 42:

المؤمنون يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ. (أعمال الرسل 2: 42)

أراد لوقا أن يعرف قرّاءه أنه حتى نكون أمناء للمسيح، وحتى يبارك الله جهودنا لنشر ملكوته، لابد أن تُبنى الكنيسة ليس فقط على المسيح كحجر الزاوية، لكن على أساس رُسُل وأنبياء الكنيسة الأولى أيضاً. لقد نقل الرسل تعاليم يسوع بشكل موثوق به وبسلطان. وهكذا، على المسيحيين في كل زمن أن يعلنوا، يحفظوا ويعيشوا حسب تعاليم الرسل.
وهذا صحيحٌ بالنسبة لكنيسة المسيح حتى في يومنا. إن الطريقة الأكثر وضوحاً التي يظهر فيها هذا صحيح هي أن العهد الجديد نفسه كُتِبَ بشكل رئيسي بواسطة الرسل. فيما حصلت الأسفار التي لم يكتبها الرسل – مثل سفر أعمال الرسل-على الموافقة الرسولية. وككنيسة المسيح اليوم، نبني حياتنا على كتابات العهد الجديد كمجموع لتعاليم الرسل.
بعد أن رأينا كيف أعدّ الرسل الكنيسة بتعليمها حتى تظل أمينة لتعاليمهم، نحن مستعدين لنتأمل كيف أعدّوا الكنيسة لتُخرِج قادة ليقودوا الكنيسة ويخدموها بينما تنتشر في مناطق جديدة وأجيال جديدة.

القادة

كما رأينا سابقاً، واجه الرسل حدوداً جسدية وزمنية منعتهم من إكمال إرساليتهم بأنفسهم. وكان جزء من الحل لهذه المشكلة هو تدريب قادة إضافيين في الكنيسة.
يجب أن نتوقف هنا وننوّه أن تقاليد مسيحية متنوعة فهمت إدارة الكنيسة الأولى ووظائفها بالعديد من الطرق. وتعترف بعض فروع الكنائس بثلاث وظائف: الأسقف، الشيخ، والشماس. بينما تعترف بعض الكنائس الأخرى باثنتين فقط: الشيخ، والشماس. ويتضمن البعض الآخر وظائف مثل: الرسول، المُرسَل، المُبشِر، وغيرها.
ستتخطى مسألة إدارة الكنيسة المناسبة نطاق هذا الدرس، لكننا نريد أن نؤكد على النقطة العامة بأن الرسل عيّنوا قادة إضافيين في الكنيسة ليؤكدوا أن الكنيسة ستكمل إرسالية الله.
في الواقع، بدأ الرسل بتعيين قادة إضافيين بسرعة لأنهم أدركوا على الفور أنهم لن يتمكنوا وحدهم حتى من إنجاز الخدمات المتعلقة بالكنيسة المحلية في أورشليم. ونرى هذا بوضوح في أعمال الرسل 6، حيث وضع الرُسل وظيفة الشماس ليؤكدوا أن الكنيسة ستلبي احتياجات أعضائها. وفي هذه الحالة، وجه الرسل الكنيسة لتعيّن رجالاً يكونوا مسؤولين عن خدمة توزيع الطعام يومياً. اصغ إلى الطريقة التي تعامل بها الرسل مع هذا في أعمال الرسل 6: 3-6:

[قال الرسل] فَانْتَخِبُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ سَبْعَةَ رِجَال مِنْكُمْ مَشْهُوداً لَهُمْ وَمَمْلُوِّينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَحِكْمَةٍ فَنُقِيمَهُمْ عَلَى هذِهِ الْحَاجَةِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَنُواظِبُ عَلَى الصَّلاَةِ وَخِدْمَةِ الْكَلِمَةِ… فَاخْتَارُوا… اَلَّذِينَ أَقَامُوهُمْ أَمَامَ الرُّسُلِ فَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمِ الأَيَادِيَ. (أعمال الرسل 6: 3-6)

عين الرسل أيضاً شيوخاً، يُدعَون غالباً رعاة، ليرعوا ويقودوا الرعيّة المحلية المتنوعة في الكنيسة. على سبيل المثال، جمع بولس بشكل نموذجي، خلال رحلاته التبشيرية، المتحولين الجدد إلى الكنائس، وعيّن قادة ليتبنوا مسؤولية الكنيسة عندما يغادر. نرى مثالاً على ذلك في أعمال الرسل 14: 23، حيث أعطانا لوقا هذا السجل:

وَانْتَخَبَا لَهُمْ قُسُوساً فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ ثُمَّ صَلَّيَا بِأَصْوَامٍ وَاسْتَوْدَعَاهُمْ لِلرَّبِّ الَّذِي كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِ. (أعمال الرسل 14: 23)

في الواقع، كان الرسل معنيين كثيراً بإعداد الشيوخ للكنيسة حتى أنهم شجعوهم ليقودوا معهم جنباً إلى جنب أثناء وجودهم. وأبرز مثال على هذا في سفر أعمال الرسل، وهو المجمع في أورشليم الذي عُقِدَ لمناقشة مسألة الأمم-السؤال هو كيف يدمجون الأمميّين في الكنيسة. وقد ترأس هذا المجمع الرُسل والشيوخ معاً. في أعمال الرسل 15، حيث سُجِّل هذا الحدث، ذُكِرَ الرُسل والشيوخ معاً كقادة الكنيسة خمسةَ مراتٍ على الأقل. اصغ إلى الطريقة التي يبدأ فيها الإصحاح في أعمال الرسل 15: 1-2:

وَانْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ الإِخْوَةَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا. فَلَمَّا حَصَلَ لِبُولُسَ وَبَرْنَابَا مُنَازَعَةٌ وَمُبَاحَثَةٌ لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ مَعَهُمْ رَتَّبُوا أَنْ يَصْعَدَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا وَأُنَاسٌ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى الرُّسُلِ وَالْمَشَايخِ إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنْ أَجْلِ هذِهِ ‎الْمَسْأَلَةِ. (أعمال الرسل 15: 1-2)

أُرسِل بولس والآخرين ليتشاوروا مع الرُسل والمشايخ. ونجد تعابيراً مشابهة في الآيات الرابعة، السادسة، الثانية والعشرين والثالثة والعشرين من نفس الإصحاح.
دعا الرسل قادة الكنيسة خلال سفر أعمال الرسل ليستمروا في إرسالية الله للملكوت المُنتظر. ونرى هذا في وصية بولس لشيوخ أفسس في أعمال الرسل 20. ونجدها في الدور البارز لشيوخ مثل يعقوب، الذي قاد الكنيسة في أورشليم في أعمال الرسل 15 و21. اصغ إلى الطريقة التي كتب بها بولس عن تعيين القادة في تيطس 1: 5:

مِنْ أَجْلِ هذَا تَرَكْتُكَ فِي كِرِيتَ لِكَيْ تُكَمِّلَ تَرْتِيبَ الأُمُورِ النَّاقِصَةِ وَتُقِيمَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ شُيُوخاً كَمَا أَوْصَيْتُكَ. (تيطس 1: 5)

لقد أوصى بولس الراعي تيطس الشاب أن يكمل ترتيب الأمور الناقصة التي لم يكملها بولس. هذا يعني، كان على الشيخ تيطس أن يكمل ما بدأه بولس الرسول؛ وكان عليه متابعة المهمة الرسولية لنشر إنجيل ملكوت الله.
لقد عيّن بولس ورسل آخرين هؤلاء القادة ليحلوا محلهم في أمور الخدمة. ولم يكن قصد الله أن يقوم الرسل بعمل كل شيء بأنفسهم. لقد أراد الله أن يؤسس الرسل كنيسته. لكنه أرادهم أيضاً أن يدربوا آخرين ليتسلموا قيادة الكنيسة من الرسل، أي قادة يستمروا في البناء على الأساس الذي وضعه الرسل، ناشرين ملكوت الله في مناطق وأزمنة لا يستطيع الرسل الوصول إليها.
لقد رأينا حتى الآن أن الرسل علموا الكنيسة عمل يسوع وتعليمه وعيّنوا قادة إضافيين ليتمموا إرسالية المسيح. إننا مستعدون، عند هذه النقطة، لنتكلم عن الطريقة التي أعد بها الرسل الكنيسة للصعوبات المحتومة التي ستواجهها في المستقبل.

الصعوبات

لقد وصف لوقا عمل الرسل أنه عمل محفوف بالمصاعب، الأخطار والاضطهاد. وكثيراً ما كانوا يُسجنون ويُعذبون. حتى أن الرسول يعقوب قُتل على يد الملك هيرودس. لقد علم الرسل أن ما كان يحدث في حياتهم سيستمر في حياة المسيحيين الآخرين.
وفي حادثة مهمة، رُجِم بولس وتُرِك ليموت من قِبَل غير المؤمنين الغاضبين في مدينة لستره. وفي اليوم التالي هرب إلى مدينة دربة المجاورة. ولكنه عاد بعد ذلك بقليل إلى لسترة ومدن أخرى ليشجع المؤمنين. سجل لوقا هذه الكلمات في سياق هذه المحاولة لقتل بولس في أعمال الرسل 14: 21-22:

ثُمَّ رَجَعَا [بولس وبرنابا] إِلَى لِسْتِرَةَ وَإِيقُونِيَةَ وَأَنْطَاكِيَةَ يُشَدِّدَانِ أَنْفُسَ التَّلاَمِيذِ وَيَعِظَانِهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا فِي الإِيمَانِ وَأَنَّهُ بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ. (أعمال الرسل 14: 21-22)

لقد أراد الرسل أن تفهم الكنيسة أنها ستواجه الصعوبة والاضطهاد. وقد يُقتَل بعضهم من أجل إيمانهم. ولكنّ هدف الملكوت يستحق ذلك. ولهذا، كان على الكنيسة أن تبقى أمينة للمسيح بثبات. يمكننا أيضاً رؤية الطريقة التي أعدّ بها الرسل الكنيسة لمواجهة الصعوبة في الخطاب المعروف لبولس لشيوخ كنيسة أفسس. حيث قال لهم بولس في أعمال الرسل 20، أنه من المحتمل ألا يراهم ثانيةً. وقال إنه ذاهبٌ إلى أورشليم، حيث كان متوقعٌ أن يُقبض عليه وربما أن يُقتَل. وفي سياق هذه النظرة المروّعة لحياته، قدم بولس تحذيرات ونصائح ليعد كنيسة أفسس لمواجهة الصعوبات.
قال بولس هذه الكلمات لشيوخ أفسس في أعمال الرسل 20: 28-31

اِحْتَرِزُوا اِذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ اللهِ الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِهِ. لأَنِّي أَعْلَمُ هذَا أَنَّهُ بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ. وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ. لِذلِكَ اسْهَرُوا، مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَاراً، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ. (أعمال الرسل 20: 28-31)

كتب العديد من الرسل أشياء مشابهة في رسائلهم للكنائس. حيث حذّر بطرس، يوحنا، وبولس الكنائس من أعداء الإيمان، ليعتمدوا على الأسفار المقدسة وتعليمهم، وأن يبقوا أمناء للمسيح.
ولم يكن قصد الرسل في كل هذا أن يُثبِطُوا همة الكنائس. بدلاً من ذلك، قصدوا أن يُعِدّوا الكنائس لتثق بالمسيح في مواجهة الصعوبات، أن يعتمدوا على مواهب الروح القدس ونعمته، وأن يستمروا في السعيّ لنشر إرسالية الله.
أكّد الرسل أن الكنيسة في كل مكان وزمان ستستمر في نشر إرسالية ملكوت الله وذلك من خلال؛ تأصيل الكنيسة في شهادة الرسل وتعاليمهم، تعيين قادة في الكنيسة، إعداد الكنيسة لمواجهة الصعوبات، ومن خلال عدة طرق أخرى.

الخاتمة

لقد استكشفنا في هذا الدرس ثلاثة مواضيع رئيسية متداخلة معاً في سفر أعمال الرسل. وقد نظرنا في أعمال الروح القدس ومواهبه. ناقشنا أهمية الرسل كشهود يسوع الفريدين ذوو السلطان. ورأينا كيف أتمّ الرسل مهمتهم بتأسيس الكنيسة.
إن سفر أعمال الرسل هو عملٌ تاريخي ولاهوتي مميز. فعندما كتب لوقا لثاوفيلس وللكنيسة الأولى، سلّط الضوء على الأهمية الكبيرة لنشر إنجيل ملكوت الله من خلال شهادتهم لشعوب الأرض بقوة الروح القدس. وعندما نطبّق هذه الدروس نفسها في حياتنا اليوم، علينا أيضًا أن نكرّس أنفسنا لملكوت الله، متطلعين إلى اليوم الذي سيعود فيه المسيح لإتمام ملكوته الأبدي.

والآن، ها هي فرصتك للحديث معنا عما تفكّر فيه
يا صديق، نحن نريد أن نساعدك في رحلة الإيمان. الخطوة التالية هي أن ترسل لنا برغبتك في المعرفة والإيمان لنتواصل معك، فنشجعك ونصلي من أجلك. نحن نتعامل بحرص وسرية مع كل رسائل الأصدقاء