كتاب أعمال الرسل
الدرس الثاني
هدف الكتاب

المقدمة

تتيح لي مهنتي كمُعلّم، فرصةَ السفر للعديد من البلاد حول العالم. وقبل كل رحلة، لا بد أن أتأكد دائمًا من فهم شيئين في غاية الأهمية: أولاً، احتاج أن أكون على علم إلى أين سأذهب. وثانياً، لا بد أن أعرف كيف سأنتقل من مكانٍ لآخر. هل سأسافر بالطائرة؟ بالسيارة؟ أو بأي وسيلة نقل أخرى؟ في الواقع، عندما نقرأ سفر أعمال الرسل، فإننا نجد شيئًا مماثلاً. فمن المفيد أن نعرف أين تتجه القصة، وما هي الأساليب أو الاستراتيجيّات الأدبيّة التي استخدمها لوقا ليرشدنا إلى غايتنا.
هذا هو الدرس الثاني في سلسلتنا سفر أعمال الرسل. إننا نستكشف في هذه السلسلة سجل الكنيسة الأولى أثناء استكمالها لخدمة يسوع. لقد وضعنا عنواناً لهذا الدرس وهو البنية والمحتوى لأننا سننظر إلى الطرق التي نظّم بها لوقا مادته، وإلى الرسالة التي أراد أن يوصلها.
سينقسم استكشافنا لبنية ومحتوى سفر أعمال الرسل إلى ثلاثة أجزاء. أولاً، سنكتشف الاستراتيجية البلاغية للسفر، ناظرين إلى كيف تؤثر طريقة لوقا في كتابة السفر على تفسيرنا له. ثانياً، سنفحص محتوى السفر، مع الإشارة إلى ترتيب مادته، واعتبار كيف فهم في القرن الأول. وثالثاً، سنقترح نموذجاً للتطبيق العصري للسفر، معتبرين كيف يمكن أن تتحدث رسالة لوقا القديمة بسلطان في عصرنا الحديث. دعونا ننظر أولاً إلى الاستراتيجية البلاغية لسفر أعمال الرسل.

الاستراتيجية البلاغية

عندما نقرأ أي سفر من أسفار الكتاب المقدس، من المهم أن نتعرّف على الطريقةِ التي يُقنع بها الكاتب قرائه بوجهاتِ نظره. ويجب أن نسألَ أسئلةً مثل: لماذا قام الكاتب بكتابة هذا السفر؟ ما هي السلطات التي لجأ إليها ليبرهنَ قضيته؟ وكيف صمّم السفر ليرشدَ قرائه إلى الاستنتاجات الصحيحة؟ تقدم الإجابة على هذه الأسئلة العديد من الأفكار المفيدة التي ينبغي ألا نتجاهلها.
عندما نتناول سفر أعمال الرسل، سنركز على ثلاثة جوانب للاستراتيجية البلاغية للوقا. أولاً، سنتحدث عن هدفه المُعلَن. ثانياً، سنذكر اعتماده على السلطان. وثالثاً، سنتحدث عن بعض الأنماط الهيكلية التي استخدمها في جميع أنحاء السفر. دعونا نبدأ بفحص الهدف المُعلَن من كتابة لوقا لسفر أعمال الرسل.

الهدف المُعلن

عندما يكتب الناس أعمالاً بطولٍ وتعقيدٍ ذو معنى، غالباً ما يكون لديهم العديد من المقاصد والأهداف. وينطبق هذا على لوقا عندما كتب كتابه ذو المجلدين إنجيل لوقا، وسفر أعمال الرسل. كان لوقا يأمل أن تؤثر كتاباته في حياة ثاوفيلس والكنيسة بعدة طرق مختلفة. ولهذا علينا أن نحذر من عدم الإفراط في تبسيط دوافعه. ومع ذلك، ذكر لوقا الهدف من كتابه بشكل واضح.
كما سنرى، أعلن لوقا بوضوح أن له هدفاً ثنائياً من كتابة هذا السفر. حيث أعلن لوقا، من ناحية، أن له مقاصد تاريخية، أي الرغبة في كتابة سجل تاريخي حقيقي وموثوق فيه للكنيسة في القرن الأول. ومن الناحية الأخرى، أعلن أن له مقاصد لاهوتية هامّة: أي الرغبة في نقل وتأكيد حقيقة وأهمية رسالة الإنجيل. وسوف نستعرض جانبي الهدف الثنائي للوقا، مبتدئين بقصده من كتابة سجل تاريخي حقيقي.

سجل تاريخي

أشار لوقا في مقدمة لوقا 1: 1–3، إلى اهتمامه البالغ بكتابة تاريخ حقيقي للكنيسة الأولى. اصغ إلى كلماته هناك:

إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي. (لوقا 1: 1–3)

يتضح اهتمام لوقا بالتاريخ الحقيقي بطرق عديدة في هذه الفقرة. حيث أشار إلى الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، أي الأحداث التاريخية التي حصلت. وأشار لوقا أيضاً إلى أنه استشار المعاينين وأنه تتبع بتدقيق التفاصيل التي سجلها. كما أنه كتب على التوالي حتى تنتقل الحقائق التي كتبها بشكل واضح ودقيق.
باختصار، قصد لوقا من كتابه ذو المجلدين؛ إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل، أن يعرض سجلاً تاريخياً حقيقياً، يبدأ بحياة يسوع في الإنجيل، ويستمر بكنيسة القرن الأول في سفر أعمال الرسل. كان لوقا مهتماً بتسجيل تاريخ حقيقي لأنه فهم مبدأً أساسياً متكرراً في جميع أنحاء الإنجيل وهو: يعلن الله ذاته في التاريخ الحقيقي، في الزمان والمكان. ويعمل عبر التاريخ ليحقق خلاصه ودينونته.
للأسف، جادل العديد من العلماء الانتقاديين في القرون الأخيرة بأن مفاهيم “الخلاص”، “الدينونة”، و”التاريخ” غير مرتبطة. فقد أكدوا، عموماً، أن أعمال الله الخارقة لا تحدث فعلاً في التاريخ، في زمان ومكان فعليين. بدلاً من ذلك، إنهم يؤمنون أن التاريخ الحقيقي هو طبيعي وليس خارقٌ. ونتيجةً لذلك، عندما يقرأ اللاهوتيون الانتقاديون عن أعمال الله في الكتاب المقدس، فإنهم يتعاملوا مع هذه السجلات كتعبيرات عن المشاعر الدينية غير الواقعية؛ أي نوع من “الخيال الديني”.
لكن أوضح لوقا أنه لم يحاول كتابة خيال ديني، إلا أنه قصد كتابة تاريخ حقيقي. حتى أنه، في الواقع، كتب بطريقة جعلت التأكد من صحة ادعاءاته أو دحضها أمراً سهلاً. وكمثال واحد، عيّن لوقا سجلاته ضمن سياقات تاريخية معروفة. على سبيل المثال، نجد في سفر أعمال الرسل إشارات لرجال مثل غَالِيُون في 18: 12؛ غَمَالائيل في 5: 34؛ فيلكس في 23: 26؛ وفَستُوس 24: 27، جميعهم كانوا معروفين في العالم اليهودي والروماني القديم. وبذكر هؤلاء الرجال وتفاصيل تاريخية أخرى، مكّن لوقا قرائه من فحص بحثه بشكل مستقل. حيث يمكنهم التحدث مع الآخرين ذوو المعرفة بالناس والأحداث التي كتب عنها لوقا، وفي بعض الحالات يمكنهم قراءة ما كتبه الآخرين عن نفس المواضيع. ولو لم تكن سجلات لوقا حقيقية، لكان من السهل على المشككين أن يدحضوها.
خاصةً منذ نهاية القرن التاسع عشر، حيث قام عدد من العلماء بتفحص صحة الأحداث التاريخية في سفر أعمال الرسل، بمقارنتها بالعديد من النصوص غير الكتابية والمعلومات الأثرية الأخرى. وأشار العديد من هذه الدراسات إلى عدد من الطرق التي كان فيها لوقا مؤرخاً موثوقاً به، لكن الوقت سيسمح لنا بذكر اثنين من الأمثلة فقط.
أولاً، أظهر لوقا في أعمال الرسل 28: 7 معرفةً بمصطلحات تاريخية محددة. حيث أشار إلى قائد جزيرة مالطا “بِمُقَدَّمِ الْجَزِيرَةِ”. وقد أثار هذا المصطلح الحيرة لدى العديد من المترجمين عبر القرون، لكن أظهرت الأبحاث الأثرية الحديثة أنه اللقب الرسمي للقائد في ذاك الوقت.
ثانياً؛ وصف لوقا في أعمال الرسل 27: 21-26 أفعال بولس على متن السفينة بطرق أكدتها الأبحاث التاريخية. حيث كتب لوقا أن بولس خاطَب كل طاقم السفينة التي حملته إلى روما، وقدم لهم النصيحة والتشجيع خلال هبوب عاصفة شديدة. وقد جادل العديد من العلماء الانتقاديين في الماضي، أنه كان مستحيلاً على بولس كسجين أن يتحدث بهذه الطريقة علناً. لذلك، استنتجوا أن لوقا خلق صورة بُطولية خيالية للرسول. لكن أظهرت الأبحاث الحديثة أن قانون الملاحة في القرن الأول، سمح لأي شخص على متن السفينة من مخاطبة ونصيحة الطاقم عندما تكون السُفُن في خطر شديد.
توضح هذه الأمثلة إخلاص لوقا لحقائق التاريخ. ويذكّرنا قصد لوقا من كتابة سجل لأحداث تاريخية حقيقية، أن حقيقة الله الأبدية لا تنفصل عن الحقائق الملموسة للحياة. بدلاً من ذلك، يتحقق الخلاص في الإيمان الكتابي من خلال التاريخ الواقعي. ولهذا كان لوقا مهتماً بكتابة سجل تاريخي حقيقي.

رسالة الإنجيل

بعد أن بحثنا في وصف لوقا التاريخي، لابد أن نذكر بعداً آخر لقصده: الهدف اللاهوتي من نقل حقيقة وقوة رسالة الإنجيل في سفر أعمال الرسل. اصغ مرة أخرى لكلمات لوقا 1: 3-4:

رَأَيْتُ أَنَا … أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي … لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ. (لوقا 1: 3-4)

كما نرى هنا، كتب لوقا تاريخ سفر أعمال الرسل لكي يثبت ما تعلمه ثاوفيلس والآخرين. هذا يعني أنه يمكن تصنيف سفر أعمال الرسل على أنه تاريخ تعليمي مسيحي أو تعليمي. لقد أراد لوقا أن يتبنى ثاوفيلس وقرائه الآخرين وجهات نظر معينة، قناعات لاهوتية معينة، ومعايير معينة بشأن الأهمية اللاهوتية للأحداث التاريخية التي كتبها في سفر أعمال الرسل.
كما رأينا في الدرس السابق، رأى لوقا العالم وكل التاريخ من خلال عدسة سلطان المسيح وملكوته. حيث رأى آمال ووعود العهد القديم تتحقق من خلال يسوع والكنيسة. وأراد أن يرى ثاوفيلس سجله للأحداث في الكنيسة الأولى من خلال هذه العدسة، ليرى كيف أسس المسيح واستمر في بناء ملكوت الله في المسيح من خلال روح الله. وهكذا، عندما نقرأ سفر أعمال الرسل اليوم، لابد أن نتذكر أن لوقا لم يسجل وقائع حقيقية حتى نعرف ماذا حدث منذ زمن بعيد فقط. إلا أنه لفت الانتباه أيضاً إلى تعاليمَ كانت تأسيسيةً بالنسبة للكنيسة: الشاهد الموثوق به على عمل يسوع المستمر من خلال الروح القدس.
الاعتماد على السلطان

بعد أن بحثنا في الهدف المُعلَن الثنائي للوقا، يمكنا التحدث عن جانب ثاني من الاستراتيجية البلاغية: اعتماده على السلطان. حيث لم يؤكد لوقا الحقائق اللاهوتية والتاريخية التي سجلها على أساس سلطته الخاصة، لكن على سلطة المسيح ورسله. وبهذه الطريقة، خدم لوقا كشاهد حقيقي للإنجيل.
إن أحد الأشياء اللافتة للنظر في سفر أعمال الرسل، هو حجم المساحة المُكرَّسة لكلمات وأعمال من خدموا كشهودٍ أساسيّين للمسيح. فعندما صعد المسيح إلى السماء، دعا رسلَه شهودًا له وأعطاهم سلطانًا، متّكلين عليه، للاستمرار في بناء ملكوته. كما منحَ القوةَ أيضًا من حين لآخر لأنبياءٍ وغيرهم من قادة الكنيسة البارزين ليعلنوا رسالته. وفي سعي لوقا لإقناع ثاوفيلس والكنيسة ككل بوجهاتِ نظرهِ، توجه مرةً بعد الأخرى إلى قادة الكنيسة الأولى، خاصة الرسل والأنبياء، لتوضيح آراءه ومدّها بالسلطان.
حتى نتعرف على اعتماد لوقا على السلطان بتفصيل أكثر، سنركز على نقطتين. أولاً: سننظر في الطريقة التي لجأ فيها لوقا إلى الكلمات ذات السلطان. وثانياً: سننظر في إشاراته للأعمال ذات السلطان. فلنبدأ بتركيز لوقا على الكلمات ذات السلطان في الكنيسة.

الكلمات

كما ذكرنا في درسنا السابق، لم يكن لوقا رسولاً. ومن المحتمل أنه آمن بعد صعود المسيح إلى السماء. واستقصى لوقا أثناء رحلاته مع أو بدون بولس، عن خدمات يسوع والرسل، وسجل شهادة شهود الرب المختارين.
من ناحية، إن كل أتباع المسيح هم شهود له. لكن عندما كانت الكنيسة في مرحلة التأسيس، كلّف يسوع الرسل ليكونوا شهوده المعصومين عن الخطأ. لقد كانوا الوحيدين الذين أعطاهم المسيح القوة وعيّنهم ليكونوا له شهوداً دائمين ذوو سلطان على الأرض في غيابه. وفوق هذا، دعا الرب الأنبياء وقادة الكنائس الآخرين ليشهدوا له بسلطان من حين لآخر.
إن من أبرز الطرق التي عرض بها لوقا الكلمات ذات السلطان، هي في تسجيل الخُطَب. فبدلاً من التعليق على تعليم الكنيسة، سجل لوقا بانتظام أحاديثاً شاملة، سامحاً لممثلي الرب ذوو السلطان بالحديث كشخصيات فاعلة في تاريخه.
في الواقع، يتكون حوالي ثلاثون بالمئة من سفر أعمال الرسل من المناقشات، الحوارات، الأحاديث الفردية، العظات، وأنواع أخرى من العروض الشفهية. وهذه النسبة من المواد الخطابية في سفر أعمال الرسل هي أعلى من أي قصص قديمة أخرى، ربما لأن لوقا اعتمد على الخُطَب كمناشدة لسلطان الرسل. وإجمالاً، هناك حوالي 24 خِطاب في سفر أعمال الرسل: ثمانيةٌ منها لبطرس، تسعةٌ لبولس، واحدةٌ لإستفانوس، واحدةٌ ليعقوب، وبعض الخطب لآخرين. وكانت الغالبية العظمى من هذه الخُطَب مُقدَّمة من الرسل، والبقية مُقدَّمة من الأنبياء وقادة الكنيسة البارزين.
لكن لماذا يعتبر هذا أمراً هاماً؟ تخبرنا الخُطَب المذكورة في سفر أعمال الرسل عن قادة الكنيسة الأولى وعن آراءهم في القضايا المختلفة. وتبيّن لنا لماذا كان التلاميذ مستعدون للمعاناة من أجل المسيح. هي تشهد عن خدمة الرسل للمسيح وتسجل تعليماتهم لبناء ملكوته. كما أنها تعطي السلطة لوجهات نظر لوقا عن تاريخ الكنيسة الأولى.
رفض العديد من العلماء الانتقاديين في القرنين التاسع عشر والعشرين، تقديم لوقا للتقارير الحقيقية للخُطَب التي أدرجها في سفر أعمال الرسل. ولابد أن نعترف بوجود أمثلة للسجلات التاريخية في العالم القديم، لم تكن فيها الخُطَب مبنية على الحقيقة.
لكن يشير عدد من العلماء الانتقاديين والإنجيليين إلى أن العديد من المؤرخين، قبل زمن لوقا وبعده، عملوا بجهد حتى يضمنوا أن تكون الخطب في تاريخهم تمثيلاً حقيقياً لخُطَبٍ فعلية. في الواقع، عندما نتفحص الخُطَب الموجودة في سفر أعمال الرسل، نجد دليل مُقنع بأن لوقا كان واحداً من هؤلاء المؤرّخين الموثوق بهم، بمعنى أن الخُطَب المذكورة في سفر أعمال الرسل تمثل تعاليم رسولية ذات سلطان.
إن لدينا ثقة في سجلات الخُطَب المذكورة في سفر أعمال الرسل، لأن لوقا كان موحاً له من الروح القدس، ليكتب تاريخاً معصوماً عن الخطأ وذو سلطان. ومع ذلك، يوجد أربعة طرق على الأقل نرى فيها أن الخُطَب الموجودة في سفر أعمال الرسل هي تمثيل صحيح لخُطَب حقيقية.
أولاً: إن لهذه الخُطَب أسلوب خاص. وعند مقارنتها مع أجزاء أخرى من السفر، تبدو هذه الخُطَب طبيعية مع أسلوب بسيط. ويستخدم بعضها لغة يونانية فظة وغير منقحة. وهذا يدل على اهتمام لوقا بكتابة ما قاله المتكلمين أكثر من تهذيب خُطَبهم وتعديلها.
ثانياً: تتلاءم الخُطَب مع سياقاتها الخاصة. حيث تم تصميم كل خُطبة بالنسبة للمتكلم والجمهور. على سبيل المثال، تحدث بطرس في أعمال الرسل 4، مع رؤساء اليهود بعد شفاء الأعرج. ورغم إعلانه لرسالة الخلاص في المسيح، كما يمكننا أن نتوقع إذا قام لوقا بتأليف هذه الخطبة، تحدث بطرس عن الشفاء بشكل مباشر كدليل على كلماته. علاوة على ذلك، لم يتمكن رؤساء اليهود غير المؤمنين من تكذيب بطرس لأنهم شهدوا المعجزة بأعينهم.
وبنفس الطريقة، تعكس خُطب بولس سياقاتها الخاصة. على سبيل المثال، تحدث بولس في أعمال الرسل 13، مع اليهود وخائفي الرب في أَنْطَاكِيَةِ بِيسِيدِيَّةَ بطريقة مختلفة عن حديثه مع الأَبِيكُورِيِّينَ وَالرِّوَاقِيِّينَ في أعمال الرسل 17.
ثالثاً: تعكس كل خُطبة فردية المتكلم. رغم أن المواضيع المشتركة متوقَعَة، إلا أن كل متكلم يعرض خاصيات مميَّزة. على سبيل المثال، نجد في خُطبة بولس لشيوخ كنيسة أفسس في أعمال الرسل 20 عدد مذهل من التشابهات مع رسائل بولس. وهذا هو نوع الخُطَب الذي نتوقعه من مؤلف هذه الرسائل.
رابعاً: أعلن لوقا بشكل صريح، في بعض الأماكن، أنه لخّص أو اختصر خُطباً معينة. على سبيل المثال، ذكر لوقا في أعمال الرسل 2: 40 أن بطرس تكلم “َبِأَقْوَال أُخَرَ كَثِيرَةٍ”. ولابد أن يجعلنا هذا نميل للاعتقاد بأن هدف لوقا عموماً هو تقديم تمثيل أشمل لخُطب فعلية في سياقاتها الأصلية.
يمكننا التأكد بهذه الطرق وأخرى غيرها، أن لوقا قدم خُطباً صحيحة تاريخياً. لم يخترع أو يؤلف هذه الخُطَب لتلائم أهدافه. بدلاً من ذلك، بنى تعليقاته وتوضيحاته القصصية على شهادة الرسل الفعلية ذات السلطان.
بالإضافة إلى تسجيل الكلمات ذات السلطان، اعتمد لوقا أيضاً على سجل الأعمال ذات السلطان، التي تم القيام بها في الكنيسة الأولى لدعم الرسالة اللاهوتية التي نقلها لوقا من خلال سفر أعمال الرسل.

الأعمال

لقد أعطى الروح القدس القوة للرسل -وأحياناً للأنبياء ولقادة الكنيسة الأولى البارزين– من خلال عدة طرق معجزية أيدت رسالة الإنجيل. وقد شهد الروح القدس من خلال المعجزات، سواء كانت المواهب الروحية الدرامية، الشفاء، أو الإقامة من الأموات، بأن الرسل هم ممثلوّ المسيح ذوو السلطة.
تأمل في أعمال الرسل 13: 7-12 حيث تم تأييد خدمة بولس أمام والي بافوس. اصغ إلى سجل لوقا هناك:

كَانَ مَعَ الْوَالِي سَرْجِيُوسَ بُولُسَ وَهُوَ رَجُلٌ فَهِيمٌ. فَهذَا دَعَا بَرْنَابَا [وَبُولُس] وَالْتَمَسَ أَنْ يَسْمَعَ كَلِمَةَ اللهِ. فَقَاوَمَهُمَا عَلِيمٌ السَّاحِرُ… طَالِباً أَنْ يُفْسِدَ الْوَالِيَ عَنِ الإِيمَانِ. وَأَمَّا … بُولُسُ أَيْضاً فَامْتَلأَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَشَخَصَ إِلَيْهِ وَقَالَ… هُوَذَا يَدُ الرَّبِّ عَلَيْكَ فَتَكُونُ أَعْمَى لاَ تُبْصِرُ الشَّمْسَ إِلَى حِينٍ. فَفِي الْحَالِ سَقَطَ عَلَيْهِ ضَبَابٌ وَظُلْمَةٌ فَجَعَلَ يَدُورُ مُلْتَمِساً مَنْ يَقُودُهُ بِيَدِهِ. فَالْوَالِي حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى مَا جَرَى آمَنَ مُنْدَهِشاً مِنْ تَعْلِيمِ الرَّبِّ. (أعمال الرسل 13: 7-12)

عندما حاول عَلِيمٌ الساحر مقاومة رسالة الإنجيل، أعطى الروح القدس القوة لبولس حتى يضربه بالعمى. وأقنعت أعمال بولس وتعليمه الوالي بصحة الإنجيل.
لقد سجل لوقا كلمات وأعمال ذات السلطان حتى يقتنع قراؤه بصحة ما كتب. لقد أراد أن يرى قراؤه بأن الرسل أُعطوا سلطاناً من الرب يسوع، وأن على الكنيسة في كل الأماكن والأجيال أن تتبع شهادتهم في بناء ملكوت الله معتمدين على المسيح.
بعد أن نظرنا إلى هدف لوقا المُعلَن واعتماده على السلطان، نحن مستعدون للتوجه إلى بُعدٍ ثالثٍ من استراتيجيته البلاغية: الأنماط الهيكلية التي استخدمها لوقا في جميع أنحاء سفر أعمال الرسل.

الأنماط الهيكلية

يعرض سفر أعمال الرسل عدة أنماط هيكلية، لكن لضيق الوقت سنركز على جانبين لبنية سفر أعمال الرسل. أولاً: سنبحث في النمط البارز للبيانات المختصرة المتكررة. ثانياً: سننظر إلى نمط نمو الكنيسة الذي يظهر في سفر أعمال الرسل. فلنبدأ بالطريقة التي استخدم فيها لوقا البيانات المختصرة.

البيانات المختصرة

يوضّح كتّاب الأسفار المقدسة حضورهم داخل القصص الكتابيّة على عدة مستويات مختلفة. فهم أحيانًا يُخفون أنفسهم، خلف أحداث قصةٍ ما، لأهداف عملية. بينما في أحيانٍ أخرى يُظهرون أنفسهم ليعلّقوا بوضوح على ما يحدث في رواياتِهِم. نُطلق على هذه التقنيّة الأخيرة تعليقات الكاتب. فقد سجّل لوقا، طوال سفر أعمال الرسل، العديد من تعليقاته ككاتب. فقد قدّم معلومات عن خلفية الأحداث، وكشف نوايا قلوب الشخصيات، كما وصف إطار الأحداث، إلى غير ذلك. وقد قام لوقا بهذا لضمان تقديم رسالتَه بوضوحٍ وأمانة. وكانت البيانات المختصرة من إحدى الطرق التي علّق بها لوقا على الأحداث في سفره.
لاحظ الكثير من القراء أن سفر أعمال الرسل يصف تقدُّم الإنجيل من أورشليم إلى أقصى الأرض. وقد توقف لوقا في عدد من الخطوات، لكي يلخّص الأحداث حتى تلك النقطة. وسوف نكتشف كيف استخدم لوقا البيانات المختصرة في ست مراحل من تاريخه: نجاح رسالة الإنجيل في أورشليم، في اليهودية والسامرة، من السامرة إلى أنطاكية سورية، في قبرص، فيريجية وغلاطية، في آسيا، مقدونية، وأخائية، ومن أورشليم إلى روما. خذ على سبيل المثال، أعمال الرسل 5: 42 حيث يلخص لوقا نجاح الكنيسة وعملها في هذه الكلمات:

وَكَانُوا لاَ يَزَالُونَ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ وَفِي الْبُيُوتِ مُعَلِّمِينَ وَمُبَشِّرِينَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. (أعمال الرسل 5: 42)

هذا هو نوع البيان المختصر الذي قدمه لوقا بانتظام في جميع أنحاء سفر أعمال الرسل ليسلّط الضوء على المراحل الناجحة من نجاح رسالة الإنجيل ونمو الكنيسة. اصغ إلى تعليقه في أعمال الرسل 28: 30-31:

وَأَقَامَ بُولُسُ سَنَتَيْنِ كَامِلَتَينِ فِي بَيْتٍ اسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ. وَكَانَ يَقْبَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ إِلَيْهِ كَارِزاً بِمَلَكُوتِ اللهِ وَمُعَلِّماً بِأَمْرِ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ بِلاَ مَانِعٍ. (أعمال الرسل 28: 30-31)

بعد أن رأينا أن لوقا لفت الانتباه إلى خصائص معينة لتاريخه من خلال البيانات المختصرة، يجب أن ننظر في نمط نمو الكنيسة الذي يبرز بين هذه البيانات المختصرة.

نمو الكنيسة

عندما وصف لوقا نمو الكنيسة، ذكر زوجين من القوى الفعالة. فمن ناحية، كتب عن النمو الداخلي والتوتر داخل الكنيسة. ومن ناحية أخرى، كتب عن النمو الخارجي والمقاومة من خارج الكنيسة. وسنوضح هذا النمط لاحقاً في هذا الدرس، لكننا سنقوم الآن بشرح فقط ما نعنيه.
يشير مصطلح النمو الداخلي إلى التأثيرات الإيجابية للإنجيل داخل المجتمع المسيحي. ويمكننا القول بأنه شكل من النمو الكيفي، ليعزز النضج الروحي للأفراد والكنيسة ككل. ونعني بمصطلح التوتر المشاكل، الأسئلة، الخلافات، والصراعات التي نشأت داخل الكنيسة. وقد أظهر لوقا بانتظام في سفر أعمال الرسل، أن هناك علاقة متبادلة بين النمو الداخلي والتوتر. حيث أدى النمو الداخلي إلى التوتر، وأدى التوتر إلى النمو الداخلي.
إن الزوج الثاني من العناصر في أنماط لوقا الهيكلية لنمو الكنيسة هو النمو الخارجي والمقاومة. ونقصد بالنمو الخارجي بأن الكنيسة زادت عددياً من خلال إضافة أعضاء جدد. ويعتبر هذا الشكل من النمو كميّاً. ونشير بمصطلح المقاومة إلى حقيقة أن الصراع كثيراً ما ينشأ بين الكنيسة والعالم غير المؤمن بينما يتفاعل غير المؤمنين بشكل سلبي مع رسالة الإنجيل. مرة أخرى، يوجد علاقة تبادلية بين هاتين الفكرتين في سفر أعمال الرسل. حيث أدى النمو الخارجي أحياناً إلى المقاومة، وأدت المقاومة إلى النمو الخارجي أحياناً أيضاً.
علاوة على ذلك، كثيراً ما أظهر لوقا أن هناك علاقة تبادلية بين هذين الزوجين من العناصر، بين النمو الداخلي والتوتر من ناحية، والنمو الخارجي والمقاومة من ناحية أخرى. بعبارة أخرى، أشار لوقا بانتظام إلى أن النمو الداخلي والتوتر يُنتج النمو الخارجي والمقاومة، وأن النمو الخارجي والمقاومة يسبب النمو الداخلي والتوتر. وكما سنرى لاحقاً في هذا الدرس، كثيراً ما يظهر هذا النمط لنمو الكنيسة في سفر أعمال الرسل، حتى أنه يشكل نوعاً من الإطار المفاهيمي أو الهيكل للسفر.
توضح البيانات المختصرة التي قدمها لوقا في السفر، أن كل جزء رئيسي من سفر أعمال الرسل يصوّر نمو رسالة الإنجيل وهو ينتشر من خلال شهادة الكنيسة الأولى. ولك أن تتخيل حجم التأثير الذي تركته هذه التعليقات على ثاوفيلس وغيره من قرّاء السفر الذي كتبه لوقا. حيث أنها شجّعت المؤمنين في كل مكان، بأن الله دائمًا يعمل من خلال بشارة الإنجيل من أجل النمو الداخلي والخارجي لكنيسته، مهما اشتدت المقاومة أو زادت حدّة التوتر. كما أنها دفعت كل المؤمنين الأوائل لقراءة كل التاريخ من هذا المنظور. كما أكدّت للمؤمنين إن بقوا شهودًا أمناء للرب والمخلّص، فإنهم سيشهدون نمو بشارة الإنجيل في أيامهم أيضًا، بغض النظر عن مشاكلِهم الداخليّة والخارجيّة.

المحتوى

بعد أن بحثنا في بعض الأبعاد الرئيسية لاستراتيجية لوقا البلاغية، نحوّل انتباهنا الآن إلى موضوعنا الثاني؛ محتوى سفر أعمال الرسل. وعلى الرغم من وجود عدة طرق لتلخيص محتوى السفر، سنركز على الطريقة التي وصف لوقا بها نمو الكنيسة كالتحقيق الجزئي لملكوت الله على الأرض.
يشرح سجل لوقا المكون من مجلدين؛ إنجيل لوقا، وسفر أعمال الرسل، كيف أحضر يسوع ملكوت الله إلى الأرض وبدأ ببنائهِ بواسطة إعلان بشارة الإنجيل. فقد وصف لوقا في إنجيله الأساس الذي وضعه يسوع للملكوت خلال فترة خدمته على الأرض. بينما شرح لوقا في سفر أعمال الرسل كيف سكبَ المسيح الروحَ القدس ليمكّنَ الرسل والكنيسة من الاستمرار في عمل بناء الملكوت. وبهذه الطريقة، يشكّل ملكوت الله القصة المشتركة لسجل لوقا بمجلدَيه. وهكذا، ونحن نستكشفُ محتوى سفر أعمال الرسل، سنولي انتباهنا بشكلٍ خاص للطريقة التي استمر بها الملكوت في الانتشار تحت قيادة الرسل.
عندما أرسل يسوع الرسل في أعمال الرسل 1: 8، أوصاهم أن يكونوا شهوداً له، معلنين الإنجيل في أورشليم أولاً، ثم إلى العالم أجمع. اصغ مرة أخرى لكلمات يسوع للرسل في أعمال الرسل 1: 8:

لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ. (أعمال الرسل 1: 8)

وضع يسوع هنا استراتيجية جغرافية لشهادة الكنيسة بالإنجيل. وكان على الرسل، مُمكّنين من الروح القدس، البدء بالشهادة في أورشليم، ثم إيصال الإنجيل إلى اليهودية والسامرة وأخيراً إلى أقصى الأرض، ناشرين الملكوت في كل مكان ذهبوا إليه.
لاحظ العديد من العلماء أن لوقا نظّم سفر أعمال الرسل حول دعوة يسوع للتوسّع الجغرافي الشاهد. وسنتبع نفس هذا النمط بينما نفحص عمله. أولاً سننظر إلى الطريقة التي وصف بها لوقا نمو الإنجيل في أورشليم في أعمال الرسل 1: 1-8: 4.
ثانياً: سنتوجه إلى نمو الملكوت في اليهودية والسامرة في 8: 5-9: 31. وثالثاً: سنركز على الطريقة التي نشرت بها الكنيسة الإنجيل إلى أقصى الأرض في 9: 32-28: 31. ولأن القسم الثالث طويل جداً، سنعطيه اهتماماً خاصاً، مركزين على المراحل الأربع لنمو الكنيسة والتي اقترحتها البيانات المختصرة للوقا التي لاحظناها للتو: أولاً، في فينيقية، قبرص وأنطاكية في 9: 32-12: 25؛ ثانياً، في قبرص، فيريجية، وغلاطية في 13: 1-15: 35؛ ثالثاً، في آسيا، مقدونية وأخائية في 15: 36-21: 16؛ ورابعاً الوصول إلى روما في 21: 17-28: 31.
سنتعرض إلى كلٍ من هذه الأقسام بتفصيل أكثر، مركزين على أنماط النمو الداخلي والتوتر، والنمو الخارجي والمقاومة التي ذكرناها سابقاً. فلنبدأ بالطريقة التي تم فيها تأسيس الملكوت في أورشليم من خلال شهادة الرسل بالإنجيل في أعمال الرسل 1: 1-8: 4.

أورشليم

كانت أورشليم عاصمة إسرائيل القديمة، أي شعب الله المختار، في العهد القديم. وكانت أورشليم نقطة البداية لسجل لوقا، بسبب الدور الرئيسي الذي لعبته في ملكوت الله في العهد القديم، وفي خدمة يسوع أيضاً. علاوة على ذلك، كتب لوقا عن أحداث أورشليم في عدد من الأماكن الأخرى في سفر أعمال الرسل، مُظهِراً بانتظام أن عمل الرسل في نشر الإنجيل إلى أراضٍ جديدة ما زال متأصلاً في هذه المدينة الخاصة.
سجل لوقا نمو الملكوت بواسطة الإنجيل في أورشليم في أربع سلاسل أساسية من القصص الكتابية: أولاً، انتظار وحلول الروح القدس في أعمال الرسل 1، 2؛ ثانياً، عظة بطرس في الهيكل والاضطهاد الذي تبعها في أعمال الرسل 3، 4؛ ثالثاً، قصة حنانيا وسفيرة والاضطهاد الذي تبعها في أعمال الرسل 5؛ رابعاً، اختيار الشمامسة والاضطهاد الذي تبعه في أعمال الرسل 6: 1-8: 4. للتوضيح، يظهر النمو الداخلي للكنيسة في عدة أحداث معروفة في أورشليم، مثل: إرسالية الرسل في أعمال الرسل 1. حلول الروح القدس في يوم الخمسين في أعمال الرسل 2. واختبار المعجزات في أورشليم، خاصةً مع بطرس، في أعمال الرسل 3، 4، 5.
وفي نفس الوقت، يتضح التوتر داخل المجتمع المسيحي بعدة طرق، بما فيها: السؤال عمن سيكون الرسول الثاني عشر في أعمال الرسل 1. كذبة حنانيا وسفيرة بخصوص الأموال التي تبرعوا بها في أعمال الرسل 5. الإغفال عن الأرامل اليونانيّات في أعمال الرسل 6.
يتبع سجل لوقا لشهادة الإنجيل في أورشليم نمط النمو الخارجي والمقاومة، مثل: تم إضافة 3000 شخص إلى الكنيسة في يوم الخمسين في أعمال الرسل 2. زاد عدد المؤمنين حوالي 5000 عند سجن بطرس ويوحنا في أعمال الرسل 4. وانضم العديد من الكهنة اليهود إلى الكنيسة في أعمال الرسل 6.
ومع ذلك، تزامن هذا النمو الخارجي مع مقاومة شديدة من غير المؤمنين، مثل: سجن وضرب بطرس ويوحنا في أعمال الرسل 5. استشهاد استفانوس في أعمال الرسل 7. وتشتت الكنيسة بسبب الاضطهاد من أورشليم في أعمال الرسل 8.
ربما توقعنا أن يعيق التوتر الداخلي والمقاومة الخارجية نمو الكنيسة في أورشليم. لكن تحت قوة الروح القدس، كان الواقع معاكس تماماً. فقد استمرت شهادة الإنجيل في التقدم بقوة عظيمة، ودون عوائق في سيرها إطلاقاً.

اليهودية والسامرة

يركز القسم الرئيسي الثاني من سفر أعمال الرسل على شهادة الإنجيل في اليهودية والسامرة، في أعمال الرسل 8: 5-9: 31. كانت مناطق اليهودية والسامرة معادلة تقريباً للمناطق الشمالية والجنوبية من أرض الموعد التي أعطاها الرب لإسرائيل في العهد القديم. وكان يسوع نفسه يخدم في هذه المناطق قبل صعوده. يمكن تقسيم تركيز لوقا على اليهودية والسامرة إلى سلسلتين أساسيتين من القصص: خدمة فيلبس في أعمال الرسل 8: 5-40، وتحوّل بولس في أعمال الرسل 9: 1-31.
فمن ناحية، تلفت هذه القصص الانتباه إلى النمو الداخلي للكنيسة. على سبيل المثال، استمر نمو الكنيسة كالتالي: استمر المؤمنون الجدد في الامتلاء من الروح القدس، في أعمال الرسل 8. أصبح شاول رسولاً بعد تحوله، في أعمال الرسل 9. وجنباً إلى جنب مع هذه الأحداث، تصاعد التوتر داخل الكنيسة. على سبيل المثال: ظهرت التساؤلات في أعمال الرسل 8، لأن بعض المؤمنين لم يقبلوا الروح القدس بعد. وحاول سيمون الساحر شراء قوة الروح القدس من الرسل في أعمال الرسل 8.
ومن الناحية الأخرى، استمر نمط النمو الخارجي والمقاومة أيضاً. على سبيل المثال، استمرت الكنيسة في النمو عددياً في اليهودية والسامرة من خلال أحداث مثل: تحوُّل الكثيرين من خلال خدمة فيلبس التبشيرية في أعمال الرسل 8. وتحوُّل شاول في أعمال الرسل 9.
ومع ذلك، لم يحدث هذا النمو دون مقاومة من غير المؤمنين. على سبيل المثال: اضطهاد شاول للمؤمنين قبل تحوُّله في أعمال الرسل 9. ومحاولة بعض اليهود اغتيال شاول بعد تحوُّله في أعمال الرسل 9.
مرة أخرى، فَشِلَ التوتر الداخلي والمقاومة الخارجية في عرقلة نمو الكنيسة بشكل مطلق. بدلاً من ذلك، استخدم الروح القدس هذه التحديات لتحقيق مزيدٍ من النضج والنمو العددي للكنيسة.

أقصى الأرض

يصف القسم الرئيسي الثالث من سفر أعمال الرسل كيف انتشر الإنجيل خارج حدود أرض الموعد، إلى أقصى الأرض، كما كانت معروفة في ذلك الوقت. وكما ذكرنا، سنبحث في هذا القسم بتفصيل أكثر، مبتدئين بتقدم الإنجيل في فينيقية، قبرص، وأنطاكية في أعمال الرسل 9: 32-12: 25.

فينيقية، قبرص، وأنطاكية

يهتم هذا القسم بأول انتشار هام للإنجيل خارج اليهودية والسامرة عندما امتد إلى الأراضي الأمميّة القريبة؛ فينيقية، قبرص، وأنطاكية في سورية. نقرأ في هذا الجزء من سفر أعمال الرسل عن خدمة بطرس في لُدَّةَ ويافا في أعمال الرسل 9: 32-43؛ خدمة بطرس لكرنيليوس الأممي في قيصرية في 10: 1-11: 18؛ امتداد الإنجيل إلى أنطاكيةِ سوريّة في 11: 19–30؛ ونجاة بطرس المعجزية من السجن في أورشليم في 12: 1-25.
وليس مدهشاً، استمر نمط النمو الداخلي والتوتر هنا أيضاً. وقد سجّل لوقا أمثلة كثيرة عن النمو الداخلي، على سبيل المثال: تم ضم الأمم إلى الكنيسة في أعمال الرسل 10. وتشجعت الكنيسة بنجاة بطرس المعجزية من السجن في أعمال الرسل 12.
وبالطبع، كانت هناك توترات ذات صلة أيضاً، مثل: تردد العديد من اليهود في قبول الأمميين في الكنيسة في أعمال الرسل 11. وقاوم العديد منهم تخفيف قيود العهد القديم الغذائية في أعمال الرسل 11.
يؤكد لوقا في هذا الجزء أيضاً على نمط النمو الخارجي والمقاومة. على سبيل المثال، كتب لوقا عن النمو الخارجي من خلال: تحوُّل كرنيليوس وأمميين آخرين في أعمال الرسل 10. ونجاح الخدمة التبشيرية لبرنابا وللآخرين في أنطاكية في أعمال الرسل 11.
لكن لم يحدث هذا النمو دون مقاومة: تضمّن هذا الاضطهاد موت يعقوب في أعمال الرسل 12. سجن بطرس في أعمال الرسل 12.
لكن رغم التوتر والمقاومة، لم يتم عرقلة شهادة الإنجيل بشكل مطلق. حيث استمر الروح القدس في مباركة كرازة الكنيسة بالإنجيل والتلمذة. وتغلب على الانقسامات العرقية والاضطهاد، حتى إطلاق سراح بطرس من السجن بطريقة معجزية. وبغض النظر عن كل العراقيل التي ألقيت في طريقه، استمر الإنجيل في المضي قُدُماً.

قبرص، فيريجية، وغلاطية

انتقل لوقا في أعمال الرسل 13: 1-15: 35، إلى القسم الرابع الأساسي: انتشار الإنجيل في قبرص، فيريجية، وغلاطية. تحرك الإنجيل في هذا القسم بعيداً عن أورشليم، اليهودية والسامرة، ممتداً إلى الأجزاء الشرقية من آسيا الصغرى. ينقسم هذا الجزء من سفر أعمال الرسل إلى جزئين أساسيين: رحلة بولس التبشيرية الأولى في أعمال الرسل 13: 1-14: 28، ومجمع أورشليم في أعمال الرسل 15: 1-35.
حفاظاً على استراتيجيته، عكس لوقا نمط النمو الداخلي والتوتر في هذا القسم أيضاً. وقد أشار إلى النمو الداخلي من خلال أشياء مثل: تقوية بولس للكنائس في غلاطية في أعمال الرسل 14. وقرار مجمع أورشليم بعدم طلب الختان من الأمميين المتحولين إلى المسيح في أعمال الرسل 15.
وذكر لوقا أيضاً التوتر الداخلي في هذا القسم، خاصة عندما كتب عن الصعوبات العملية المتعلقة بالأمميين المتحوّلين. وقد تصاعد التوتر بين المؤمنين اليهود والمؤمنين الأمميين حول قضايا: الختان وقساوة النظام الغذائي اليهودي التقليدي في أعمال الرسل 15.
أما بالنسبة للنمو الخارجي والمقاومة، فقد ذكر لوقا عدة قضايا، مثل: نمو العدد الناتج عن رحلة بولس التبشيرية الأولى في أعمال الرسل 14.
لكن كما رأينا سابقاً، كان هذا النمو مصحوباً بمقاومة شديدة، مثل: رفض اليهود غير المؤمنين بولس وبرنابا بشكل متكرر، خاصةً في لِسْتْرَةَ، إِيقُونِيَةَ وأنطاكية في أعمال الرسل 14. ومع هذا، استمر الروح القدس في دفع الكنيسة للأمام وفي التغلب على كل عقبة في طريق شعبه. وتابع الإنجيل الذي لا يمكن إيقافه في تحقيق مقاصد الله.

آسيا، مقدونية وأخائية

يمتد القسم الأساسي الخامس في سفر أعمال الرسل من 15: 36-21: 16، حيث امتدت شهادة الإنجيل إلى المقاطعات الرومانية في آسيا، مقدونية وأخائية. يركز هذا الجزء من سفر أعمال الرسل على رحلتي بولس التبشيرية الثانية والثالثة، حيث سافر بولس فيها عن طريق شرق آسيا الصغرى، كما فعل سابقاً، لكنه تابع إلى مقاطعة آسيا في غرب آسيا الصغرى، وعبر بحر إيجة حتى وصل إلى العديد من المدن في مقدونية وأخائية والتي هي اليونان اليوم.
سجّل لوقا رحلة بولس التبشيرية الثانية في أعمال الرسل 15: 36-18: 22، ورحلته التبشيرية الثالثة في 18: 23-21: 16. وفي هذا النمط الذي ينبغي أن يكون مألوفاً لنا الآن، تؤكد هذه الإصحاحات على العلاقة بين النمو الداخلي والتوتر. ونجد العديد من الأمثلة عن النمو الداخلي هنا، مثل: تعليمات أَكِيلاَ وَبِرِيسْكِلاَّ لأَبُلُّوسُ في أعمال الرسل 18. تعليم بولس الموسَّع في مجامع أفسس وفي مدرسة تِيرَانُّسُ في أعمال الرسل 19.
وبالطبع، رافق هذا النمو الداخلي توتر كبير. على سبيل المثال: تشاجر بولس وبرنابا بخصوص مرقس وافترقا في أعمال الرسل 15. وحذر بولس الكنيسة من قادة الكنيسة ذوو الدوافع الشريرة في أعمال الرسل 20. ونقرأ أيضاً عن النمو الخارجي والمقاومة. على سبيل المثال، يتضح النمو الخارجي في العديد من المتحوّلين على يد بولس وفي الكنائس التي أسسها بولس في رحلاته التبشيرية الثانية والثالثة في أعمال الرسل 15-21. لكننا نرى أيضاً مقاومةً، مثل: الجموع الغاضبين الذين حاولوا قتل بولس، واليهود الغيوريون الذين تبعوا بولس من مدينة لأخرى في أعمال الرسل 17 و20.
أظهر لوقا، مرة أخرى، أن الإنجيل انتشر بشكل فعّال في جميع أنحاء العالم. وشكلت التوترات الداخلية والمقاومة الخارجية صعوبات مستمرة، لكنها لم تتمكن من إيقاف تقدم شهادة الإنجيل المدعومة بالروح القدس.

روما

أخيراً، يركز القسم الرئيسي الأخير من رواية لوقا على شهادة الإنجيل في روما في أعمال الرسل 21: 17-28: 31. يركز هذا القسم على رحلة بولس من أورشليم، ثم على إلقاء القبض عليه لاحقاً، سجنه ونقله إلى روما. تنقسم هذه المواد إلى أربعة أقسام كبيرة تقريباً: شهادة بولس الأخيرة في أورشليم في أعمال الرسل 21: 17-23: 11؛ سجن بولس في 23: 12-26: 32؛ رحلته الصعبة إلى روما في 27: 1-28: 14؛ وأخيراً شهادته في روما في 28: 15-31.
كما توقعنا، تحتوي هذه الإصحاحات على الأنماط المألوفة للنمو الداخلي والتوتر. ونجد العديد من الأدلة على النمو الداخلي، بما فيها أشياء مثل: فرح المؤمنين اليهود في أورشليم عند سماعهم عن إيمان الكثير من الأمميين في أعمال الرسل 21. واستعداد بولس والآخرين للمعاناة وحتى للموت من أجل نشر رسالة الإنجيل في أعمال الرسل 22.
لكننا نرى أيضاً أن النمو الداخلي مصحوبٌ بالتوتر، على سبيل المثال: الإشاعة بأن بولس علّم المؤمنين اليهود حتى يتخلوا عن تقاليدهم في أعمال الرسل 21. والتوتر المستمر الذي سببه وجوده في كنيسة أورشليم في أعمال الرسل 21.
ونجد أيضاً نمط النمو الخارجي والمقاومة. حيث سجل لوقا أن الكنيسة حققت خطوات كبيرة في النمو الخارجي خلال هذه الفترة. على سبيل المثال: تمكن بولس من توصيل رسالة الإنجيل إلى العديد من كبار المسؤولين في أعمال الرسل 23، 24، 25، 26، و28. وبشّر في روما بلا عائق، في أعمال الرسل 28.
لكن أشار لوقا أيضاً إلى مقاومة شديدة صاحبت هذا النمو، بما في ذلك: إلقاء القبض على بولس وسجنه لمدة أربع سنوات بأمر الحكومة الرومانية في أعمال الرسل 24. وسجن بولس في روما في أعمال الرسل 28.
يبرهن كل قسمٍ رئيسي من سفر أعمال الرسل على أن شهادة الإنجيل الأمينة لم تفشل. فقد مكّنَ الروحُ القدس الكنيسةَ من نشر رسالة الإنجيل من أورشليم إلى عاصمة الإمبراطوريّة الرومانيّة ذاتَها. ورغم المصاعب الداخليّة والخارجيّة التي احتملتها الكنيسة، قاد الإنجيل، الذي لا يمكن إيقافه، الكنيسة نحو النضج الروحي والنمو العددي، وهي تقوم بنشر ملكوت الله إلى أقصى الأرض.

التطبيق المعاصر

بعد أن بحثنا في الاستراتيجية البلاغية لسفر أعمال الرسل ومحتواه، فلنتجه نحو موضوعنا الثالث: الخطوات نحو التطبيق العصري. ماهي بعض القضايا الرئيسية التي يجب أن نضعها في اعتبارنا عند تطبيق حقيقة سفر أعمال الرسل في يومنا هذا؟ حتى نفحص هذا الموضوع، سنركز أولاً على الصفة الأدبية لسفر أعمال الرسل، مشيرين إلى بعض خصائصه الأساسية. ثانياً: سنتحدث عن بعض الانقطاعات بين القرن الأول ويومنا، والتي تؤثر على تطبيقنا العصري لما جاء في السفر. وثالثاً: سنؤكد على بعض نقاط التواصل الهامة بين القرن الأول والعصر الحديث، والتي تساعدنا على ربط بين المعنى الأصلي للسفر بحياتنا. فلنبدأ بفحص الصفة الأدبية لسفر أعمال الرسل.

الصفة الأدبية

تنقل أنواع مختلفة من الأدب أفكارها بطرق مختلفة. على سبيل المثال، نجد عدة أنواع من الأدب في الكتاب المقدس. فهناك القصص الكتابية التاريخية، القصائد، الخُطَب، الحكايات الرمزية، الأمثال، الناموس، وهكذا. ويعطي كلٌ نوع من هذه الأنواع الأدبية المعلومات بطريقة مختلفة. فإذا أردنا فهم سفر أعمال الرسل بطريقة مسؤولة، لابد أن نأخذ في اعتبارنا أي نوع من أنواع الأدب يكون سفر أعمال الرسل، والطرق التي يوصل بها هذا النوع من الأدب أفكاره.
يمكننا قول الكثير عن سفر أعمال الرسل من الناحية الأدبية، لكنّ الوقت سيسمح لنا بتسليط الضوء على ثلاث من خصائصه الأكثر بروزاً. أولاً، كان لوقا انتقائياً فيما سجله من أحداث. ثانياً، صمم السفر ليكون عَرَضياً. وثالثاً، أنه نقل الكثير من تعاليمه بشكل ضمني. فلننظر أولاً إلى الطبيعة الانتقائية للمادة في سفر أعمال الرسل.

انتقائي

يجب أن يكون كل مؤرخ انتقائي. فهناك عدد كبير من الحقائق، الأشخاص، والأحداث في العالم، لأي إنسان ليقدم تقريراً شاملاً عنها. وتمتد الأحداث في سفر أعمال الرسل على مدى السنين منذ صعود يسوع إلى السماء، وحتى سجن بولس في روما، وتشمل هذه الفترة ثلاثة أو أربعة عقود. وقد حدث عدد هائل لا يُحصى من الأحداث الهامة في الكنيسة في ذلك الوقت. ومع ذلك، كتب لوقا فقط ثمانيةً وعشرين إصحاحاً قصيراً إلى حد ما. وهكذا، نعرف أنه سجل فقط جزءاً صغيراً مما يمكن قوله. لكن كيف حدد ما هي الأحداث التي ينبغي أن يشملها؟ وكيف قرر ما ينبغي حذفه؟
لقد اختار لوقا، مسوقاً بالروح القدس، هذه الأجزاء من التاريخ والتي هي حاسمة في فهم عمل يسوع من خلال الرسل، وهذا سيقنع قراءه باعتناق بعض التعاليم الأساسية للرسل. وهكذا، وبينما نحاول إيجاد طرق لتطبيق سفر أعمال الرسل في العالم الحديث، لابد أن نقوم بأمرين. فمن ناحية، يجب أن نتجنب خطأ التفكير بأن لوقا سجل كل شيء قد نرغب في معرفته عن تلك الفترة من تاريخ الكنيسة. فهناك العديد من الأسئلة التي لم يتم الإجابة عنها، وعلينا أن نتجنب البحث عن حلول لمشاكلنا العصرية في سفر أعمال الرسل.
ومن الناحية الأخرى، يجب أن نتذكر أن كل سجل في سفر أعمال الرسل، موجود لمساعدة لوقا على تحقيق هدفه الثنائي. ولهذا، علينا قراءة أحداث السفر في ضوء الطريقة التي تساعد لوقا في تحقيق هدفه. ويجب أن نطرح دائماً أسئلة مثل: ماذا يعلمني هذا عن الكنيسة الأولى؟ وما هي العقائد التي يشجعني على تبنيها؟

عرضي

إلى جانب كونه انتقائياً، فإن الأسلوب الأدبي لسفر أعمال الرسل عَرَضي. بمعنى أنه كتب مجموعات متعاقبة من القصص والسجلات القصيرة.
عند قراءة سفر أعمال الرسل، مهمٌ أن نلاحظ أن كل قصة هي جزء من استراتيجية لوقا ورسالته ككل. حيث تساهم كل قصة بطريقة ما في تحقيق مهمته ككل في تعليم ثاوفيلس عن إنجيل ملكوت الله في المسيح. وهكذا، يجب أن تظهر هذه الصورة الكبيرة كخلفية وسياق لكل حلقة نقرأها في سفر أعمال الرسل.
ولكن كل حلقة مميَّزة أيضاً. حيث أن لكل واحدة منها أهداف لتحققها، وتفاصيلها الخاصة لتعلم عن الطريقة التي ينبغي أن تستمر فيها الكنيسة في بناء ملكوت الله في المسيح من خلال الإنجيل. هذا يعني أنه عند قراءة السفر، ينبغي ألا نسمح لهدف لوقا العام أن يطغى على النقاط الفردية التي كان لوقا يصنعها. لابد أن ننتبه للصورة الكبيرة والصغيرة، ونفهم كيف أن كل حلقة لا تساهم في تحقيق الهدف الأكبر فحسب، لكن في تحديد تفاصيل هذا الهدف أيضاً.

ضمني

بالإضافة إلى كونه انتقائياً وعَرَضياً، فإن الشكل القصصي لسفر أعمال الرسل ضمني في الطريقة التي ينقل فيها نوعه الكثير من تعليمه.
بصورة عامة، يوجد نوعين أساسيين من الأدب في العهد الجديد: المخاطبة القصصية، والمخاطبة الجدلية. المخاطبة الجدلية هي الأدب الذي يمثّل نوعاً من المحادثة، مثلاً، عندما تتحدث إحدى الشخصيات في كتاب، أو عندما يتحدث المؤلف مع قرائه بشكل مباشر. على سبيل المثال، تتألف رسائل العهد الجديد في المقام الأول من مخاطبات جدلية يتكلم فيها مؤلفٌ، مثل بولس، مع مستلميّ هذه الرسائل بشكل مباشر. وبالطبع، تتضمن بعض الرسائل أجزاءً من القصص، ونجد أحياناً أناشيد أو أمثال. لكنها تتكون على الأغلب من المخاطبات الجدلية. والنقطة الرئيسيّة التي نرغب في إبرازها هنا هي أن المخاطبات الجدلية تنقل معظم تعاليمها بشكل مباشر وواضح. فعندما كتب بولس رسالة ليخبر قرائه أن يفكروا أو يفعلوا شيئاً ما، فقد أخبرهم ما كان يريد بشكل مباشر.
من الناحية الأخرى، المخاطبة القصصية هي نوع الأدب السائد في الأناجيل الأربعة، والأهم من ذلك في هذه الدروس، في سفر أعمال الرسل. والمخاطبة القصصية هي الأدب الذي يحكي قصةً ويقدم تعليماً بطريقة أقل مباشرة. ومما لا شك فيه، تظهر المخاطبة الجدلية في هذه الأسفار أيضاً، وخاصة في خُطَب بعض الشخصيات، ولكن الأدب السائد في الأناجيل الأربعة وسفر أعمال الرسل هو المخاطبة القصصية. وبعكس المخاطبات الجدلية، التي تميل إلى التعليم بشكل واضح، تميل المخاطبات القصصية إلى التعليم بشكل ضمني، سامحة للقارئ باستنتاج دروسها. وتؤثر القصص في القراء، ليس من خلال التعليمات المباشرة، ولكن بطرق دقيقة أكثر. لقد تم تصميمها حتى يستخلص القرّاء الدروس من المواقف، الأفعال، وكلمات الشخصيات، ويتعلموا أن يتبنوا الأفكار التي ترضي الله ويتجنبوا الأفكار التي تعارض مشيئته.
فكر في الأمر بهذه الطريقة. تظهر قصصٌ مِثل سفر أعمال الرسل، بشكل عام، فقط لعرض الحقائق. هذا حدث، وذلك حدث، ثم حدث شيء آخر. وتظهر لأول وهلة كأنها مجرد تقرير للأحداث. وكما رأينا، كان لوقا يعلق بوضوح أحياناً على أهمية العناصر في قصصه. لكنه وصف الأحداث أو الحقائق في معظم الأحيان مع تعليق ضئيل أو بدون تعليق. ومع ذلك، الحقيقة هي أن قصصه لم تُكتَب فقط لتسجيل الأحداث. فقد كان لديه دوافع تعليمية أيضاً، واستخدم قصصه لينقل هذه الأفكار بشكل ضمني.
دعني أوضح هذه الفكرة من خلال قصة من حياتي الشخصية. عندما كانت ابنتي صغيرة جداً، قيل لها ألا تأكل الحلوى قبل العشاء. لكن في إحدى الأمسيات، أتت ابنتي إلى المائدة والحلوى تغطي شفتيها. وسألتها إذا كانت قد أكلت الحلوى فأجابت بإنكار، “لم آكل أي حلوى يا أبي”.
بصفتي كأب، كان أمامي طريقتان للتعامل مع الوضع. كان يمكنني التعامل مع الموقف بشكل مباشر وواضح من خلال المخاطبة الجدلية. وقد أقول “أنت لا تقولين الحقيقة، يمكنني رؤية آثار الحلوى على وجهك! أنت في ورطة”. لكن كان لدي أيضاً الاختيار القصصي، وهو غير مباشر وضمني. كان يمكنني أن أضع ابنتي الصغيرة في حضني وأقول لها “دعيني أحكي لك قصة”. كان هناك فتاة صغيرة وقيل لها ألا تلعب وهي مرتدية أجمل فساتينها. ولكنها لبست الفستان على أي حال ولعبت ووسخته كثيراً. ما رأيك بما فعلت تلك الفتاة الصغيرة؟”
إن استراتيجيةً قصصيةً بلاغيةً كهذه تكون فاعلة بشكل أساسي في المستويات الضمنية. إنها تدعو الطفل للتساؤل، “ألم يكن شيئاً سيئاً أن الفتاة الصغيرة لم تطع أبويها؟” تكمن قوة القصص وجمالها في أنها تنقل هذا النوع من الأفكار بشكل ضمني. لكن إذا كانت القصص دقيقة بما فيه الكفاية، فإنها تُشرِك المستمع في ظروف القصة. ويصبح المستمع مشتركاً بشكل شخصي بطرق تساعده حتى لا يكون دفاعياً. إنها تسمح للمستمع أن يكون أكثر قابليةً للتعلم.
لقد تم عرض حوالي سبعين بالمئة من سفر أعمال الرسل بأسلوب قصصي. فبالنسبة للجزء الأكبر من السفر، كان لوقا يخاطب قرائه بشكل أساسي ويقول “دعوني أحكي لكم قصة عن عمل الله في الكنيسة الأولى”. بالطبع كانت القصة التي أخبرهم بها حقيقية بشكل مطلق. لقد دعاهم لدخول عالم التاريخ الحقيقي. لكنه قدم هذا التاريخ في شكل قصة لأنه أراد أن يستخلص قرائه النتائج من الحقائق التي سجلها. وهكذا، عندما نقرأ سفر أعمال الرسل، مهم أن نبحث عن هذه التعاليم الضمنيّة.
وبالطبع، إن إحدى الطرق الرئيسية لتقييم القصص الكتابية وتطبيقها على حياتنا، هي بملاحظة رد فعل الله تجاه الأحداث التي تحصل. إن أقوال الله وأفعاله قبل أي شيء آخر هي معصومة عن الخطأ. وبالنتيجة، يجب أن نلاحظ دائماً، الأشياء التي يوافق عليها الله في سفر أعمال الرسل ويباركها، بالإضافة إلى الأشياء التي يرفضها ويلعنها. فكل ما يباركه الله يكون خيراً، وكل ما يرفضه أو يلعنه فلابد أن يكون شراً. وعندما نقرأ سفر أعمال الرسل، لابد أن نسعى لتقليد العقائد، المواقف، والسلوكيات التي تُرضي الله، وتجنُّب ما يعارضه.
بالإضافة إلى ذلك، ولأن لوقا اعتمد على وجهات نظر قادة الكنيسة البارزين بشكل كبير، فإن طريقة أخرى لرؤية تعليم لوقا الضمني هي بملاحظة الأمثلة التي قدمها لنا. فإذا فعل أحد الأشخاص الموثوق بهم كالرسل، الأنبياء، وقادة الكنيسة المحتَرَمين أو قالوا شيئاً، يمكننا الاستنتاج عادةً بأننا مدعوين للتعاطف معهم. حيث أن أفعالهم مناسبة، وشهادتهم حقة. وبناءً على ذلك، يجب أن يكون رد فعلنا استجابة لدعوتهم في قلوبنا، وأن يكون سلوكهم وأفكارهم نموذجاً لنا.
والعكس صحيح أيضاً، عندما يتم إدانة الأشخاص من قِبَل الرسل أو الكنيسة في سفر أعمال الرسل، يمكننا الاستنتاج بأن أفعالهم شريرة، وأنه علينا ألا نتبع مثالهم.
وليست هذه أنواع المضامين الوحيدة التي سجلها لوقا في سفر أعمال الرسل على الإطلاق. لكنها تزود القراء بموطئ قدمٍ صُلب ليتعلّموا كيف يصنعوا الاستنتاجات الصحيحة من القصص الكتابية.
بعد أن فهمنا الصفة الأدبية لسفر أعمال الرسل، لابد أن ننتقل إلى الانقطاعات بين القرن الأول والعالم العصري والذي يؤثر حتماً على طريقة تطبيقنا لسفر أعمال الرسل.

الانقطاعات

علينا أن نتذكر دائمًا أنه على الرغم من أن الكتاب المقدس كُتِب من أجلنا، فهو لم يُكتب لنا مباشرةً. فنحن نعلم بوضوح أن القرّاء الأصليين هم ثاوفيلس وآخرين من القرن الأول الميلادي. وبالتالي، نحن نطّلع على ما كُتبَ لهم ونحن نقرأ ما كتبه لوقا. ولهذا، لا يخاطبنا لوقا بشكلٍ مباشر في كل ما كتبه ونحن نستمع لما قاله لهم. بل يجب أن نتوقع أن بعض تعاليم سفر أعمال الرسل ينطبقُ علينا بشكلٍ مختلف عمّا حدث مع ثاوفيلس وغيره من قرّاء لوقا الأصليّين. فإذا حاولنا ببساطة تكرار ما نراه في الأسفار المقدسة، دون أخذ هذه الاختلافات في الاعتبار، فإننا كثيرًا ما سنسيئ تطبيق كلمة الله بطرقٍ ضارّة.
سنقوم بتلخيص هذه الانقطاعات بين عالمنا وعالم لوقا بطريقتين. أولاً: نحن نعيش في زمن مختلف عن زمنهم. وثانياً: لقد تغير العالم كثيراً منذ القرن الأول، حتى أن ظروفنا، ومواقفنا مختلفة عن ظروف أولئك الذين كتب لهم لوقا هذا السفر أولاً. سننظر أولاً إلى حقيقةِ أننا نعيش في زمن مختلف عن زمن أولئك الذين استلموا سفر أعمال الرسل أولاً.

زمن مختلف

مهمٌ أن نتذكر، على سبيل المثال، أن سفر أعمال الرسل يركز على الرسل، شهود المسيح ذوو السلطة في القرن الأول. وكان العديد من أعمال الله من خلال الرسل محددٌ بالنسبة لذلك الزمان والمكان في تاريخ الفداء، حيث كانت أعمالاً رائدةً وتأسيسية لا يمكن تكرارها. وكمثال واحد فقط، كان وجود الرسل فريداً من نوعه. وكما سنرى في درس لاحق، لا يمكن أن يكون هناك رسول آخر. فمن ناحية، حتى يتأهل شخص لوظيفة الرسول، لابد أن يكون قد رأى الرب المُقام. ومن الناحية الأخرى، لابد أن يكون معيناً من الله نفسه مباشرةً. وهكذا، رغم أنه يمكننا القول إن سفر أعمال الرسل يعلمنا أن نحترم قادة كنيستنا ونخضع لهم، لا يوجد رسل أحياء في عصرنا هذا. إن أفضل شيء يمكننا فعله هو الخضوع لشهادتهم المكتوبة في العهد الجديد.
للأسف، بحث الكثير من الجماعات المسيحية في سفر أعمال الرسل عن نموذج للحياة المسيحية والذي ينبغي اتباعه بدقة في كل عصر. على سبيل المثال، يعلّم أعمال الرسل 2: 1-4 أن الروح القدس سُكِبَ في يوم الخمسين بطرق معجزيّة ومثيرة، وأن أولئك الذين قبلوه بدأوا بإعلان الإنجيل بلغات ولهجات مختلفة. لقد كان هذا حدثاً خاصاً حصل عند الانسكاب الأول للروح القدس بهدف تمكين الرسل والمؤمنين الأوائل لخدمة المسيح. وقد حصلت أحياناً أحداث مشابهة في سفر أعمال الرسل، لكن فقط كنتيجة مباشرة لأعمال الرسل. إن ما هو ثابت في السفر هو حقيقةُ أن كل مؤمن يقبل عَطية الروح القدس حتى يتحول في شخصيته ويصبح شاهداً. ولكن ما هو غير ثابت في سفر أعمال الرسل هو وجود أو غياب استعلانات معينة للروح القدس. ومع ذلك، تصرّ بعض طوائف الكنيسة أنه حتى في يومنا، يوجد ملء منفصل للروح القدس ولابد أن يُستعلَن دائماً بإعلان الرسالة بلغات وألسنة مختلفة. وعندما يفشل المسيحيون –ذوو النية الحسنة-في اعتبار الانقطاعات بين القرن الأول ويومنا، فإنهم غالباً ما يحاولون تطبيق تعاليم سفر أعمال الرسل بطريقة غير لائقة.

ظروف مختلفة

بالإضافة إلى أننا نعيش في زمن مختلف عن زمن القراء الأصليين لسفر أعمال الرسل، فإن ظروفنا مختلفة أيضاً، مثل الثقافات المختلفة والمواقف الشخصية. لقد حصلت كل الأحداث في سفر أعمال الرسل في الظروف التاريخية للقرن الأول، وكان العديد من جوانب سجل لوقا مشروطاً بهذه الظروف التاريخية والثقافية.
للأسف، حاولت بعض المجموعات من المسيحيين على مر القرون حتى يكونوا أمناء لتعاليم سفر أعمال الرسل، وذلك بالعودة مرة أخرى للممارسات الثقافية لكنيسة القرن الأول. على سبيل المثال، نقرأ في أعمال الرسل 5: 42 أن أعضاء الكنيسة اجتمعوا في بيوت خاصة. وعلى هذا الأساس يصر بعض المسيحيين على أن تجتمع الكنيسة في البيوت وليس في مبنى الكنيسة. ونقرأ في أعمال الرسل 6: 1 أن الكنيسة زوّدت الأرامل بالطعام. ونتيجة لذلك، يصر بعض المسيحيين اليوم على وجود خدمة توزيع طعام على الأرامل كجزء من خدمات الكنيسة. وبالطبع ليس هناك خطأ في اجتماع أعضاء الكنيسة في البيوت أو توزيع الطعام على الأرامل. ولكن علينا أن ندرك أن هذه الممارسات كانت مشروطة بظروف كنيسة القرن الأول. مثلاً، جعل الاضطهاد من الاجتماع في البيوت أمراً ضرورياً. ولكن في أنحاء العالم حيث الاضطهاد ضئيل أو غير موجود، لا حاجة للكنيسة للاجتماع في البيوت. ولكن بقدر ما تكون ظروفنا مشابهة لظروفهم، فإن تطبيق هذه المبادئ الكتابية شرعي. وبقدر ما تكون ظروفنا مختلفة، قد نكون مُلزَمين بتطبيق هذه المبادئ الكتابية نفسها بطرق مختلفة.
في الواقع، كثيراً ما نجد تطبيقات مختلفة للمبدأ نفسه حتى في سفر أعمال الرسل. على سبيل المثال، وصف لوقا في أعمال الرسل 2: 44-45، أعضاء الكنيسة في أورشليم أن كل شيء عندهم كان مشتَرَكاً. ومع ذلك، نجد في السفر نفسه أن العديد من الكنائس التي أسسها بولس الرسول اجتمعت في بيوت المواطنين الأثرياء أو قادة المدينة، دون ذكرٍ للحياة المشتركة، ومن غير نقد من أي ممارسة. وأدركت الكنيسة، من البداية، أن نفس المبدأ الكتابي يجب أن يُطبق بطرق ملائمة للظروف الحالية. يجب ألا نكتفي بالتقليد فقط كبديل للتطبيق المسؤول.
بعد أن وصفنا الصفة الأدبية لسفر أعمال الرسل، وأوضحنا الانقطاعات بين زمن لوقا وزمننا، يجب أن نتحدث عن بعض نقاط التواصل بين القرن الأول والعالم العصري.

التواصل

يمكننا تلخيص نقاط التواصل بين المسيحيين في كلا الزمنين بالقول إن لنا نفس الإله الثالوثي، الكائن في أقانيم الآب، الابن والروح القدس؛ نفس الهدف وهو بناء ملكوت الله في المسيح؛ ونفس الإنجيل، أي نفس رسالة الخلاص والفداء التي تتطلب أن نستجيب لها بإيمان، توبة وطاعة. دعونا ندرس أولاً حقيقة أن لنا نفس إله المسيحيين في القرن الأول.

نفس الإله

يذكرنا سجل لوقا لتاريخ الخلاص أننا نخدم ونشهد لنفس الرب يسوع المسيح، الذي خدمه الرسل والكنيسة الأولى. كل مسيحي أعطي القوة من نفس الروح القدس الذي كان حاضراً في القرن الأول. ونحن نفعل كل شيء من أجل مجد وكرامة نفس الآب. إن إلهنا الثالوثي لم يتغير.
لقد عمل الله من خلال الإنجيل بطرق عظيمة في القرن الأول، وهو ما يزال يفعل هذا اليوم. وإذا بدا الله بعيداً عن حياتك الشخصية، حياة كنيستك، أو حياة طائفتك، فإن الأشياء ليست كما ينبغي أن تكون. إذا لم نرى الله يعمل، آتياً بالخلاص للضالين وبانياً كنيسته، علينا أن نتجه لله بتوبة وإيمان، ونسأله أن يكمل عمل النعمة الخلاصي في حياتنا وكنائسنا.

نفس الهدف

بالإضافة إلى وجود نفس الإله، إن للمسيحيين اليوم نفس الهدف الذي كان للكنيسة في سفر أعمال الرسل.
كان غرض الله، في سفر أعمال الرسل، بناء ملكوته في المسيح من خلال الرسل. وقد عمل الرسل لتحقيق هذا الهدف من خلال رعاية الكنيسة وزيادة عدد المؤمنين فيها بواسطة الإنجيل. لكنهم كانوا يعلمون أيضاً أن امتداد ملكوت الله ليشمل كل الأرض، سيحتاج أكثر من اثنا عشر شخصاً يعملون لبضع سنوات، ولهذا أعدوا الكنيسة للعمل معهم، ولتكمّل الطريق بعد موتهم. يمكننا القول إنه كما كلف يسوع الرسل ببناء ملكوته، كلف الرسل الكنيسة أيضاً بهذه المهمة.
بالطبع، لن تنتهي مهمة بناء الملكوت حتى يعود المسيح ثانية في المجد. وهكذا، ما زال هدف الكنيسة الحديثة بأن تتوافق مع إرسالية الله في بناء ملكوته في المسيح، لجعل العالم بأسره وكل الحياة تحت قيادته. إن إحدى الطرق الأساسية لتحقيق هذا الهدف هي بالاعتماد على تعاليم الرسل عن الخلاص، السلوكيات، صفة التقوى، العلاقات، الكرازة وكل أمر آخر في الحياة. في نهاية الأمر، إذا أردنا إكرام وإطاعة المسيح، على الكنيسة أن تخضع لشهادة الرسل ذات السلطة.
على سبيل المثال، حرص لوقا على تسجيل الطرق المختلفة التي نشر بها الرسل ملكوت الله عبر العديد من الثقافات والمواقف. وباتباع مثالهم، يمكننا استخدام وسائل مشابهة لتحقيق هدف الملكوت في يومنا. نعم، نحن نحتاج للقيام ببعض التعديلات في ضوء الانقطاعات بين العصر الحديث والعالم القديم. لكن، بما أننا نسعى للخضوع لإرسالية الله المُعلَنة بدلاً من السعي لأهداف شخصية، تظل الأهداف والمبادئ ورائها ثابتة في كل الأجيال.
أخيراً، بالإضافة إلى وجود نفس الإله، ونفس الهدف، إن المسيحيين المعاصرين مدعوين لإعلان نفس الإنجيل الذي نشرته الكنيسة في القرن الأول.

نفس الإنجيل

مهما تغير العالم، يبقى شيء واحد ثابتاً: سقط البشر بالخطية وتمردوا على الله وابتعدوا عنه، وهم في أشد الحاجة للفداء. كلنا بحاجة لنفس الخلاص. وهذا الخلاص ممكن في المسيح، الذي يغفر خطايانا ويأتي بنا إلى ملكوته. هذه هي رسالة الإنجيل التي علّمها الرسل في القرن الأول. وهي رسالة الإنجيل التي أعلنها لوقا في سفر أعمال الرسل. كما أنها رسالة الإنجيل التي ينبغي قبولها والخضوع لها اليوم. وهذه الرسالة بسيطة جداً. كما قال بولس وسيلا لسجان فيلبي في أعمال الرسل 16: 31:

آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ. (أعمال الرسل 16: 31)

إن لهذه الرسالة البسيطة مضامين عميقة. إنها تشمل كل جوانب حياتنا الفردية والمشتركة، وتتحدانا لنتغير، ونصبح شهوداً للإنجيل في العالم أجمع. يبقى الإنجيل على حاله بالنسبة لجميع الناس في كل الأماكن والأزمنة. كل الناس مدعوون للتوبة عن خطاياهم وتمردهم، وللثقة بالمسيح. يجب أن يخضع كل الناس لقيادته وبناء ملكوته. ويجب أن تصل هذه الرسالة إلى كل شخص في يومنا، كما تم إعلانها في جميع أنحاء العالم منذ أيام الرسل. إن الدعوة للطاعة موجهة لليهود وللأمم، الأغنياء والفقراء، الرجال والنساء، المُكرمين والمحتقرين. إنها تتغلب على أيّة مقاومة أو عوائق، لأنها كلمة المسيح الملك، لمجد أبيه، ممكّنة بالروح القدس. وكما يعلّم سفر أعمال الرسل، لا تجارب، لا توتر، ولا مقاومة، قوية بما فيه الكفاية لمقاومة نمو وانتشار رسالة الفداء. لهذا يجب على مسيحييّ هذا العصر أن يتمتعوا بالجرأة والثقة عند إعلان وتأكيد رسالة إنجيل الرسل، ويدعو الجميع للتوبة والإيمان بالمسيح، والانضمام لهم كمواطنين أوفياء في ملكوت الله.

الخاتمة

لقد استعرضنا في هذا الدرس الاستراتيجية البلاغية التي استخدمها لوقا في سفر أعمال الرسل؛ ومحتوى هذا السفر؛ والخطوات الأولى اللائقة التي يجب اتخاذها نحو التطبيق العصري لتعاليمه. ولابد أن يزودنا استكشافنا لهذه المسائل بطريقة لفهم، تقدير، والعيش وفقاً لتعاليمه ذات السلطة في عصرنا هذا.
يُعتبر سفر أعمال الرسل، من جوانب عديدة، بمثابة الجسر بين زمن المسيح، وزمن الكنيسة المعاصِرة. فهو يوضح كيف فهِمَت الكنيسة الأولى شخصَ المسيح، وعمله، وتعاليمه وطبّقت كل ذلك. كما أنه يضع الأساس لطرقٍ تسمحُ للمؤمنين المعاصرين أن يفهموا ويطبقوا هذه الأفكار نفسها في حياتهِم. ولذلك، فكلّما أدركنا مقاصد لوقا وأساليبه الأدبيّة في سفر أعمال الرسل، كلّما كنا مؤهّلين بصورةٍ أفضل لكي نحيا بطرقٍ تُكرم ملكنا العظيم المقام من الأموات وتخدمه.

والآن، ها هي فرصتك للحديث معنا عما تفكّر فيه
يا صديق، نحن نريد أن نساعدك في رحلة الإيمان. الخطوة التالية هي أن ترسل لنا برغبتك في المعرفة والإيمان لنتواصل معك، فنشجعك ونصلي من أجلك. نحن نتعامل بحرص وسرية مع كل رسائل الأصدقاء