كتاب أعمال الرسل

الدرس الأول
خلفية الكتاب
المقدمة

مازال العالم يتذكر المؤلف الموسيقي الألماني العظيم لودفيج فان بيتهوفن من خلال مؤلفاتهِ الجميلة والمذهلة. ولكن بقدر روعة مقطوعاته الموسيقية في حدِ ذاتها، فإن أعماله تصبحُ مؤثرةً أكثر، عندما نتذكر أن بيتهوفن عانى من فقدان السمع بشكلٍ تدريجي، بدأ عندما كان شابًا صغيرًا. في الواقع، من المدهش أن ندرك أن بيتهوفن كتبَ العديد من أعظم أعماله عندما كان أصمًّا بالكامل. إن معرفة خلفية حياة بيتهوفن تجعل موسيقاه أكثرَ روعةً وتأثيرًا.
وبنفس الأهمية، يُعد تقديرُنا للأسفار المقدسة مشابهٌ لإعجابِنا ببيتهوفن. فليس من الصعب أن نرى القوةَ والوضوح التي تُصرّح بها أسفار الكتاب المقدس المختلفة عن إعلانِ الله. ولكن عندما نتعرّف على خلفيات كتّاب الأسفار المقدسة، وعالَمهم، وحياتهم، وأهدافهم يصبحُ فهمُنا وتقديرُنا للكتاب المقدس أكثرَ عمقًا.
هذا هو الدرس الأول في سلسلتنا “سفر أعمال الرسل”. سنستكشف في هذه السلسلة السفر الخامس من العهد الجديد والذي يسمى عادةً “سفر أعمال الرسل” أو “الأعمال”. وقد وضعنا عنوانا لهذا الدرس وهو “خلفية سفر أعمال الرسل”، وسوف ندرس عدداً من القضايا الأساسية التي ستساعدنا في فهم وتقدير تعاليم هذا السفر بصورة أوضح وأعمق.
سيتلامس درسنا مع ثلاثة جوانب أساسية من خلفية سفر أعمال الرسل، أولاً: سوف نفحص مؤلف السفر، ثانياً: سوف ننظر إلى الإطار التاريخي، وثالثاً: سوف نكتشف خلفيته اللاهوتية. دعونا نبدأ بفحص مؤلف هذا السفر.

من هو كاتب سفر أعمال الرسل؟

إن سفر أعمال الرسل موحى به من الروح القدس، مثل كل الأسفار المقدسة. لكن لا ينبغي أن تقودنا هذه الحقيقة إلى تجاهلِ كتّابه البشر. فقد حفظَ الروح القدس المخطوطات الأصليّة للكتاب المقدس خاليةً من الخطأ، إلا أنه استخدمَ أيضًا شخصيات الكتّاب البشر، وخلفياتهم، وأهدافهم.
يُنسَب سفر أعمال الرسل بشكل تقليدي إلى لوقا، وهو كاتب الإنجيل الثالث. لكن لا يذكر الإنجيل الثالث أو سفر أعمال الرسل اسم الكاتب. وهكذا، ينبغي أن ننظر إلى أسباب تأكيد وجهة النظر التقليدية لتأليف لوقا لهذا السفر.
سوف نستكشف مؤلف سفر أعمال الرسل من ثلاثة اتجاهات. أولاً: سنقارن سفر أعمال الرسل بإنجيل لوقا. ثانياً: سنفحص تاريخ الكنيسة الأولى وشهادتها بالنسبة لتأليف لوقا للسفر. وثالثاً: سنتعرف بشكل مختصر على جوانب أخرى من العهد الجديد تشير إلى أن لوقا هو من كتب هذين السفرين. دعونا نتوجه أولاً إلى ما يمكننا تعلمه عن سفر أعمال الرسل من خلال إنجيل لوقا.

إنجيل لوقا

عندما نقارن سفر أعمال الرسل والإنجيل الثالث، يظهر نوعان من الأدلّة التي تشير بقوة إلى أن شخصاً واحداً كتب هذين السفرين. فمن ناحية، يوجد دليل واضح مذكور في السفرين ويشير إلى هذا الاتجاه. ومن الناحية الأخرى، يوجد دليل ضمني أيضاً يتضح من خلال أسلوب ومحتوى هذين السفرين. دعونا نبدأ بالدليل الواضح الذي يشير إلى المؤلف المشترَك للسفرين.

دليل واضح

نقرأ في أعمال الرسل 1: 1 أي مقدمة سفر أعمال الرسل ما يلي:

اَلْكَلاَمُ الأَوَّلُ أَنْشَأْتُهُ يَا ثَاوُفِيلُسُ عَنْ جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَفْعَلُهُ وَيُعَلِّمُ بِهِ. (أعمال الرسل 1: 1)

تحدث الكاتب هنا عن “الكلام الأول، هذا يعني أن سفر أعمال الرسل هو الجزء الثاني من مجلدين على الأقل. وأشار الكاتب أيضاً إلى أنه كتب هذا السفر لشخص يدعى ثاوفيلس. اصغ إلى مقدمة مشابهة في لوقا 1: 1-4:

إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ. (لوقا 1: 1-4)

مرة أخرى، تشير هذه الفقرة إلى شخص يدعى ثاوفيلس، ولكن لا يوجد ذكر لأي كتاب سابق. لقد كُتِب كل من سفر أعمال الرسل وإنجيل لوقا إلى ثاوفيلس، ويشير سفر أعمال الرسل إلى كتاب سابق. وتقدم هذه الحقائق دليلاً قوياً على أن مؤلف هذه الكتب أصدر مجلّدين على الأقل، المجلد الأول هو إنجيل لوقا، والمجلد الثاني هو سفر أعمال الرسل. في الواقع، يعكس الترابط بين هاتين المقدمتين عرفاً أدبياً قديماً يظهر عندما يُصدر مؤلفٌ كتاباً بمجلّدين. فقد كتب يوسيفوس على سبيل المثال، كتاباً بمجلّدين تحت عنوان “ضد أبيون” وله مقدمات مشابهة في كلا الجزأين.
توجد وراء هذه الروابط الواضحة بين سفر أعمال الرسل والإنجيل الثالث، روابط ضمنية تشير إلى أن لهما مؤلف مشترك.

دليل ضمني

أشار عدد من علماء العهد الجديد إلى أوجه الشبه بين السفرين. وسيسمح لنا الوقت بذكرها باختصار، لكنها تقدم دليلاً ضمنياً هاماً على أن المؤلف مشترك. وكما رأينا للتو، يذكر لوقا 1: 1-4 أن المؤلف حقق في مصادر متنوعة وصنع وصفاً منظماً مكرّساً إلى ثاوفيلُس.
وليس غريباً أن يشير عدد من العلماء إلى أن الوصف في إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل مُنظَّمٌ ومُشكَّلٌ بطرق متشابهة. وهناك أوجه شبه عديدة أيضاً في البنية التركيبية للكتب. حيث يبدأ كلاهما بأسلوب الجمل الاعتراضية، كما أن كلاهما بنفس الطول تقريباً؛ ويملأ كل منهما مخطوطة بحجم معياري.
بالإضافة إلى ذلك، هناك تشابه في الطول الزمني في كلا السفرين حيث أن كلا السفرين يغطيان تقريباً نفس عدد السنوات. كما ويوجد مواضيع متوازية فيهما أيضاً. على سبيل المثال: يبلغ الإنجيل الذُروة في اعتقال يسوع، محاكمته، معاناته، موته، وانتصاره في أورشليم عاصمة يهوذا ومكان كرسيّ المُلك اليهودي. وبالمقابل، يصل سفر أعمال الرسل إلى نتيجته في رحلة الرسول بولس إلى روما، بدءاً باعتقاله، محاكمته، ومعاناته ثم خاتماً بالإعلان المُنتصر لإنجيل المسيح في عاصمة أقوى إمبراطورية في العالم.
ويوجد أوجه شبه بين السفرين أيضاً لأنهما يشكلان جزءً من نفس القصة. ويمكننا أن نفكر بحقيقة أن هناك بعض التوقعات التي أُثيرَت في إنجيل لوقا والتي لم تتحقق قبل سفر أعمال الرسل. على سبيل المثال: أعلن سمعان البار في بداية إنجيل لوقا أن يسوع سيكون نورُ إعلان للأمم. اصغ إلى كلمات سمعان في لوقا 2: 30-32:

لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ. (لوقا 2: 30-32)

تفسر خدمة يسوع في إنجيل لوقا خلاص الله والوعد الذي أعطاه لإسرائيل. ولكننا نرى خلاص الله يخدم كنور إعلان للأمم بشكل واضح فقط في سفر أعمال الرسل. تشير أوجه الشبه هذه وأخرى غيرها إلى رؤية خلاصيّة تاريخية مشتَرَكة، وإلى شعور مشترك بالهدف والمعتَقَد بين السفرين. كما وتوحي أوجه الشبه هذه أيضاً إلى أننا نبحث في أعمال كاتب واحد.

الكنيسة الباكرة

بعد أن اطلعنا على بعض الأدلة على وجود مؤلف واحد لإنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل، سوف نتأمل في الدليل الذي يقدمه لنا تاريخ الكنيسة الأولى. لقد شَهِدت الكنيسة الأولى من القرن الثاني إلى القرن الرابع الميلادي، أن لوقا، والذي كان رفيقاً لبولس في رحلاته، هو المؤلف لكلٍ من سفر أعمال الرسل وإنجيل لوقا. وسوف ندرس هذا الدليل بطريقتين: أولاً، سوف ننظر إلى المخطوطات القديمة المكتوبة من الكتاب المقدس وعنه. وثانياً: سوف ننظر إلى ما كتبه قادة الكنيسة الأولى عن تأليف لوقا. دعونا نبدأ بالحديث عن الدليل عن بعض المخطوطات القديمة.

المخطوطات

لقد تم اكتشاف مخطوطة قديمة جداً، تسمى بالبُردية،75 في مصر عام 1952. وكانت مكتوبة على ورق البردي وتضمنت أحد أقدم أدلة مخطوطات العهد الجديد. وقد تم نسخها على الأرجح بين 175 و200 ميلادية، وتشمل أجزاء كبيرة من إنجيل لوقا وإنجيل يوحنا. إن وصفين لمحتوى الإنجيلين مكتوبين بين نصوصهما. فبعد خاتمة إنجيل لوقا، تضمنت المخطوطة هذه الكلمات “euangelion kata Loukan” أو “الإنجيل كما رواه لوقا”. ثم يتبع هذه الكلمات مباشرةً عبارة “euangelion kata Ioannan” أو “الإنجيل كما رواه يوحنا”. وتشير هذه الملاحظات إلى أن النص الذي يسبق جملة “الإنجيل كما رواه لوقا” عُرِفَ بأنه إنجيل لوقا. ويشير دليل المخطوطة هذا إلى أنه كان معتَقَداً منذ وقت مبكر جداً أن لوقا هو من كتب الإنجيل الثالث. ويشير بالتالي إلى أن لوقا هو كاتب سفر أعمال الرسل أيضاً.
ثانياً: تُعتَبَر قصاصة موراتوري والمؤرّخة ما بين 170 و180 ميلادية، من أقدم الوثائق المعروفة، والتي تذكر أسفار العهد الجديد التي اعتبرتها الكنيسة الأولى قانونية. وبعد التأكيد بأن لوقا هو مؤلف إنجيل لوقا فعلاً، إنها توضح بأنه كاتب سفر أعمال الرسل أيضاً. حيث نقرأ هذه الكلمات من السطور 34 إلى 36:

علاوة على ذلك، تم كتابة أعمال جميع الرسل في سفر واحد… وقام لوقا بجمع الأحداث الفردية التي عاصرها.

تدل هذه المقولة على أنه، في القرن الثاني الميلادي، ساد الاعتقاد وبشكل واسع بأن لوقا هو من كتب سفر أعمال الرسل وأنه شَهِد -على الأقل-بعضاً من الأحداث التي جرت فيه.
ثالثاً: إن المقدمة المسماة المقدمة ضد المارسيونيّة، أي التمهيد للإنجيل الثالث والتي كُتِبَت من حوالي 160-180 ميلادية، تصف كتابة لوقا لإنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل بهذه الطريقة:

كتب لوقا، مسوقاً بالروح القدس، الإنجيل الثالث بأكمله… ثم بعد ذلك كتب نفس الشخص (لوقا) سفر أعمال الرسل.

بالإضافة إلى دليل المخطوطة القديمة هذا، لدينا أيضاً شهادة قادة الكنيسة الأولى بأن لوقا هو مؤلف الإنجيل الثالث وسفر أعمال الرسل أيضاً.

قادة الكنيسة الأوائل

عاش إرينايوس، وهو أحد آباء الكنيسة الأولى، من حوالي 130 إلى 202 ميلادية، وكان يَعتقد بأن لوقا هو مؤلف الإنجيل الثالث. حيث كتب في كتابه “ضد الهرطقات” الكتاب الثالث، الفصل الأول، الجزء الأول ما يلي:

كتب لوقا أيضاً، وهو رفيق سفر بولس، عن الإنجيل الذي بشّر به.

أشار إرينايوس هنا عن سفر أعمال الرسل على أنه السفر الذي سجل فيه عن الإنجيل الذي بشّر به بولس. إن كلماته مهمة لأن الدليل التاريخي الجيد يشير إلى حصول إرينايوس على معرفة مباشرة فيما يتعلق بكتابة لوقا لسفر أعمال الرسل.
وأشار إكليمندُس الإسكندري، الذي عاش من حوالي 150-215 ميلادية، إلى أن لوقا هو مؤلف سفر أعمال الرسل. فقد كتب هذه الكلمات في الكتاب الخامس الفصل الثاني عشر من كتابه Stromata”” أي المنوّعات أو المسائل المتنوعة: حيث يروي لوقا في سفر أعمال الرسل بأن بولس قال:

أيها الرجال الأثينيون، أرى أنكم في كل الأمور متدينون كثيراً.

هذا وكتب ترتيليان، الذي عاش من حوالي 155 -230 ميلادية، هذه الكلمات في الكتاب الرابع الفصل الثاني من كتابه “ضد مارسيون”:

ولذلك، ومن الرسل، غرس يوحنا ومتى الإيمان فينا أولاً… وقام لوقا ومرقس بتجديده فيما بعد.

نسب ترتيليان الإنجيل الثالث هنا تحديداً إلى لوقا.
أخيراً، إن المؤرّخ الكنسي الكبير يوسابيوس، الذي كتب حوالي سنة 323 ميلادية، ذكر لوقا ككاتبٍ لسفر أعمال الرسل في الكتاب الأول الفصل الخامس الجزء الثالث من كتابه “التاريخ الكنسي”، اصغ إلى ما يقوله هناك:

كتب لوقا … عن [الاكتتاب] في سفر أعمال الرسل.

بالإضافة إلى هذه الأنواع من التصريحات التأكيديّة، من الملفت للنظر أنه لا يوجد ولا مؤشر واحد في كتابات الكنيسة الأولى، بأن شخصًا آخر غير لوقا هو من كتب الإنجيل الثالث وسفر أعمال الرسل، على الرغم من أنه لم يكن رسولًا أبدًا. وبسبب وجود براهين كهذه، لدينا مبررٌ للاعتقاد بأن الكنيسة الأولى لم تخترع فكرة أن لوقا هو الكاتب، لكنها ببساطة سلّمت ما سبقَ وتَسلّمته على أنه الحقيقة: بأن لوقا كتب هذين السفرين.

العهد الجديد

لقد رأينا أن هناك مبرراً جيداً للتأكيد على التأليف المشترك لإنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل، وأن الكنيسة الأولى شَهِدت أن هذا المؤلف هو لوقا. دعونا نرى ما يمكننا استخلاصه عن لوقا نفسه من أجزاء أخرى من العهد الجديد.
سوف نفحص هذا الدليل بطريقتين. أولاً: سنعرض بعض الأدلة التي حصلنا عليها من العهد الجديد عن مؤلفنا المجهول. وثانياً: سنقارن هذه الأدلة بما نعرفه عن لوقا. دعونا ننظر أولاً إلى ما لدينا من الأدلة عن هذا الكاتب.

الأدلة

كما سبق وقلنا، لم يعّرف كاتب سفر أعمال الرسل عن نفسه بالاسم. ويبدو أنه لم يشعر بالحاجة لذكر اسمه من أجل راعيه ثاوفيلس. حيث يقول في لوقا 1: 3: “رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً … أَنْ أَكْتُبَ”، وفي سفر أعمال الرسل 1: 1: “اَلْكَلاَمُ الأَوَّلُ أَنْشَأْتُهُ”. لقد افترض المؤلف أن صديقه سيعرفه. ورغم أن هذا لم يسبب مشكلة بالنسبة لثاوفيلس، إلا أنه أثار عدة تساؤلات عند قرّاء العصر الحديث.
وفي الوقت نفسه، يخبرنا العهد الجديد عدة أشياء عن مؤلفنا. أولاً: لم يكن رسولاً، في الواقع، ومن المحتمل أنه آمن بعد صعود يسوع إلى السماء. استمع لهذه التفاصيل من إنجيل لوقا 1: 1-2:

إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ. (لوقا 1: 1-2)

عندما قال المؤلف أن تفاصيل حياة يسوع [سُلِمت إلينا]، فإنه يبين أنه لم يكن شاهدَ عيان لحياة يسوع.
ثانياً: يشير أسلوب اللغة اليونانيّة في كل من إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل إلى أن المؤلف شخص مُتَعَلِّم. فقد تم كتابة العديد من أسفار العهد الجديد بلغة يونانية عامية بسيطة إلى حد ما. لكن يُظهِر إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل تعقيداً أكثر في اللغة المستعمَلة.
ثالثاً: يبين النصف الثاني من سفر أعمال الرسل أن المؤلف هو أحد رفاق سَفَرْ بولس المقرَّبين. إن الروايات في الإصحاحات الأولى من سفر أعمال الرسل، هي في صيغة الغائب. ولكن ابتداءً بالإصحاح السادس عشر من سفر أعمال الرسل، تأخذ الرواية صيغة المتكلم، مستعملةً كلمات مثل “أنا” و”نحن”. ونجد هذا النوع من اللغة في أعمال الرسل 16: 10-17؛ 20: 5-15؛ 21: 1-18؛ 27: 1-28: 16. وتبين هذه الفقرات أن الكاتب رافق بولس في رحلاته التبشيرية الأخيرة وفي رحلته من قيصرية إلى روما.
بعد أن تعرفنا على بعض الأدلة عن مؤلفنا، نحن في وضع يمكّننا من رؤية كيف تتوافق هذه التفاصيل مع ما نعرفه عن لوقا.

لوقا

دعونا ننظر مرة أخرى إلى ما نعرفه عن مؤلف إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل: لم يكن رسولاً. يبدو وكأنه متعلم. وكان رفيقا لبولس في سفره. كيف يمكن مقارنة هذه التفاصيل مع ما نعرفه عن لوقا؟
أولاً، لم يكن لوقا رسولاً. خدم الرسل في الدور التأسيسي للكنيسة، ومارسوا باسم المسيح سلطةً فريدةً من نوعها لبناء الكنيسة وحمايتها من الأخطاء والمشاكل. وبناءاً على ما جاء في أعمال الرسل 1: 21-22 كان لابد أن يتتلمذ الرسل على يد يسوع نفسه. لكن لم يقابل لوقا يسوع أبداً، ولم يدعّي هذا النوع من السلطة التي تخصّ الرسل. إلا أنه كان ببساطة عضواً مخلصاً وداعماً لرحلات بولس التبشيرية. لقد كان خادماً لرسول، أو كما وصفه بولس في فليمون 24 “زميل عمل” الرسول.
ثانياً، من المحتمل أن لوقا كان شخصاً متعلماً. ويمكننا استنتاج هذا من كولوسي 4: 14، حيث عرّف بولس عن لوقا على أنه طبيب. ورغم أن الطب لم يكن علماً منهجياً في أيام العهد الجديد كما هو الآن، إلا أنه تطلب مهارةً وذكاءً.
ثالثاً، كان لوقا رفيق سفر بولس. حيث ذكر بولس الرسول أن لوقا سافر معه في كولوسي 4: 14؛ رسالة 2 تيموثاوس 4: 11؛ وفليمون 24.
يمكنُنا أن نلخّص موضوع كاتب سفر أعمال الرسل بهذه الطريقة. يوجد الكثير من الأدلة التاريخيّة التي تشير إلى كتابة لوقا لسفر أعمال الرسل. فإنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل لهما نفس الكاتب. كذلك تنسب أدلّة الكنيسة الأولى دائمًا الكتابة إلى لوقا. كما تتوافق المُعطيات الكتابيّة مع هذه الفكرة. وفي ضوء هذه البراهين، لدينا سببٌ وجيه للاعتقاد بأن لوقا هو كاتب كلٍ من الإنجيل الثالث وسفر أعمال الرسل. وعلينا أن نتذكر دائمًا أن لوقا كان قريبًا جدًا من الموضوعات التي وصفها، وكانت له وسائل متميّزة للوصول إليها.

الإطار التاريخي

بعد أن عرفنا أن لوقا هو المؤلف، نحن مستعدون للانتقال إلى الإطار التاريخي لسفر أعمال الرسل. متى كتبه لوقا؟ ولمن كتبه؟
بينما نستعرض الإطار التاريخي لسفر أعمال الرسل، سوف ندرس ثلاثة مواضيع. أولاً، سندرس تاريخ كتابة هذا السفر، وسنحاول الإجابة على السؤال: متى كتب لوقا هذا السفر. ثانياً، سنتعرف على القرّاء الأصليين لهذا السفر. وثالثاً، سوف نكتشف السياق الاجتماعي لهؤلاء القراء. وسيساعدنا البحث في هذه المواضيع في توضيح مدى قرب لوقا من الأحداث المَروية بشكل أكبر. وسيساعدنا أيضاً في فهم تأثير الإنجيل في القرن الأول الميلادي بشكل أعمق. فلنبدأ بتاريخ كتابة السفر.

التاريخ

رغم وجود عدة آراء بخصوص تاريخ كتابة سفر أعمال الرسل، يمكننا بشكل عام، تقسيم آراء علماء العهد الجديد إلى اتجاهين رئيسيين. فمن ناحية، جادل البعض أن لوقا كتب هذا السفر بعد هدم هيكل أورشليم في سنة 70 ميلادية، ومن الناحية الأخرى يقول آخرون أن لوقا كتب السفر قبل هدم الهيكل في سنة 70 ميلادية. لقد كانت الأحداث المأساوية التي جرت في سنة 70 ميلادية حاسمة بالنسبة للتاريخ اليهودي، ولهذا من المفيد أن نفكر بالآراء حول هذه المواضيع بالنسبة لهذه الأحداث. سوف نفحص هذين الرأيين، مبتدئين بإمكانية كتابة لوقا للسفر بعد سنة 70 ميلادية.

بعد 70 ميلادية

يبني العلماء الذين يعتقدون أن سفر أعمال الرسل كُتِبَ بعد سنة 70 ميلادية آرائهم على عدة أسس. على سبيل المثال، ادعى الكثير أن التفاؤل في سفر أعمال الرسل يشير إلى التاريخ بين سنتي 80 إلى 90 ميلادية. إن سفر أعمال الرسل، حسب هذا الرأي، إيجابي أكثر مما ينبغي فيما يتعلق بالكنيسة الأولى حتى يكون مكتوباً في بداياتها. بدلاً من ذلك، إنه نظرة حنين إلى الكنيسة الأولى، تتطلب عدة سنوات من الانفصال عن الأحداث نفسها. لكن يتجاهل هذا الرأي الطريقة الواقعية التي يتعامل بها سفر أعمال الرسل مع كل المشاكل الداخلية والخارجية للكنيسة الأولى.
إن السبب الأساسي لاعتقاد بعض العلماء أن سفر أعمال الرسل كُتِب بعد سنة 70 ميلادية، هو أنهم يؤمنون بأن بعض أجزاء السفر يعتمد على عمل المؤرّخ اليهودي يوسيفوس. ولم يتم كتابة كتابات يوسيفوس ذات الصلة بالموضوع قبل سنة 79 ميلادية، ولم تكن قد عُرِفت بشكل واسع قبل سنة 85 ميلادية. وهكذا، يستنتج أولئك الذين يعتقدون أن سفر أعمال الرسل اعتمد على أعمال يوسيفوس، بأنه لم يتم كتابة السفر قبل سنة 79 وربما بعد سنة 85 ميلادية.
رغم إشارة المؤيدين لهذا الرأي إلى العديد من الروابط بين سفر أعمال الرسل وكتابات يوسيفوس، فإننا سنذكر أربع روابط فقط. أولاً: يشير أعمال الرسل 5: 36 إلى ثائر يهودي يدعى ثوداس، وقد يكون مذكوراً أيضاً في الكتاب العشرين الجزء السابع والتسعين من كتاب يوسيفوس أثار اليهود. ثانياً: يذكر أعمال الرسل 5: 37 الثائر اليهودي يهوذا الجليلي، وهو مذكورٌ أيضاً في الكتاب الثاني الأجزاء 117، 118 من كتاب يوسيفوس الحروب اليهودية، وفي الكتاب الثامن عشر الأجزاء الأول إلى الثامن من كتابه أثار اليهود. ثالثاً، إن الثائر الذي يدعى المصري المذكور في أعمال الرسل 21: 38، قد يظهر أيضاً في الكتاب الثاني الأجزاء 261 إلى 263 من كتاب يوسيفوس الحروب اليهودية، وأيضاً في الكتاب العشرين الجزء 171 من كتاب أثار اليهود. ورابعاً: جادل بعض المفسرين بأن وصف موت هيرودس في أعمال الرسل 12: 19-23، مبنيُ على الكتاب التاسع عشر الأجزاء 343 إلى 352 من كتاب يوسيفوس تاريخ اليهود.
وعلى الرغم من عدد المفسرين الذين تبنوا هذه النظرية، علينا أن نشير إلى أن التشابهات بين سفر أعمال الرسل وكتابات يوسيفوس لا تبرهن اعتماد سفر أعمال الرسل على هذه الكتابات. في الواقع يختلف وصف سفر أعمال الرسل للأحداث عن وصف كتابات يوسيفوس. ويبدو على الأرجح أن سفر أعمال الرسل وكتابات يوسيفوس سردوا أحداثاً تاريخيةً معروفةً كلٌّ على حِدا، أو اعتمدوا على مصادر مشتَرَكة. وبما أن الأشخاص المذكورين هم شخصيات تاريخية معروفة نسبياً، فليس غريباً أن يتم ذكرهم في أكثر من وصف تاريخي. وأكثر من هذا، وبالنسبة لثيوديوس إننا نتعامل مع اسم شائع جداً. ومن المحتمل وجود شخصين منفصلين بنفس الاسم.

قبل 70 ميلادية

إن وجهة النظر الأخرى المتعلقة بتاريخ كتابة سفر أعمال الرسل، هي أنه كُتب قبل هدم الهيكل سنة 70 ميلادية. وهناك العديد من الأدلة التي تؤيد هذا التاريخ، لكن من أجل أهدافنا، سنركز على ما يمكننا استنتاجه من المشهد الأخير من سفر أعمال الرسل. استمع إلى الآيات الأخيرة في أعمال الرسل 28: 30-31. حيث كتب لوقا هذه الكلمات عن بولس:

وَأَقَامَ بُولُسُ سَنَتَيْنِ كَامِلَتَينِ فِي بَيْتٍ اسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ. وَكَانَ يَقْبَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ إِلَيْهِ كَارِزاً بِمَلَكُوتِ اللهِ وَمُعَلِّماً بِأَمْرِ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ بِلاَ مَانِعٍ. (أعمال الرسل 28: 30-31)

يختم سفر أعمال الرسل بوضع بولس تحت الإقامة الجبرية في منزله في روما، وهو مازال يعلن عن الإنجيل المسيحي بِجُرأة.
وتقدّم هذه الخاتمة دليلاً هاماً على الاعتقاد بأن سفر أعمال الرسل كُتِبَ قبل سنة 70 ميلادية. أولاً: يُنقِص وَصْفُ لوقا لخدمة بولس حدث هام حصل سنة 64 ميلادية، حيث اتهم نيرون المسيحيين بالحرائق المدمرة في روما، وبدأ باضطهادهم. ومن المستبعد ألا يذكر لوقا تحوّلاً رئيسياً للأحداث مثل هذا، لو أنه حدث قبل كتابة السفر.
ثانياً: هناك اعتقاد بأن بولس استشهد في أثناء اضطهاد نيرون للكنيسة، ربما في سنة 65 ميلادية أو بعدها بوقت قصير. ولو أن سفر أعمال الرسل كُتِبَ بعد ذلك، لذَكَر استشهاد بولس، والذي يُعتَبَر أحد أبزر الشخصيات في هذا السفر.
ثالثاً: عندما تم هدم الهيكل اليهودي سنة 70 ميلادية، أثر ذلك كثيراً على العلاقات بين اليهود والأمميين في الكنيسة. ويركز سفر أعمال الرسل على هذه العلاقات في عدة أماكن. وهكذا ليس محتَملاً أن يحذف السفر هدم الهيكل إذا كان قد حدث فعلاً.
ويمكننا أن نستنتج في ضوء هذه الحقائق، أن لوقا أكمل كتابة سفر أعمال الرسل في وقت قريب من فترة سجن بولس وخدمته في روما من سنة 60 إلى 62 ميلادية، وهي آخر الأحداث التاريخية المكتوبة في السفر.

القرّاء الأصليين

بعد فهمنا للتاريخ المبكر لكتابة سفر أعمال الرسل، علينا أن ننتقل إلى الموضوع الثاني في الإطار التاريخي للسفر: أي القراء الأصليين لكتابات لوقا. إن فهم الجمهور الذي سعى لوقا للوصول إليه من خلال هذا السفر، هام في فهم السفر.الإ
سنكتشف القراء الأصليين لسفر أعمال الرسل بطريقتين. أولاً: سننظر إلى التكريس الواضح لهذا السفر إلى ثاوفيلُس. ثانياً: سنتعرض لإمكانية أن يكون هذا السفر موجهٌ لجمهور أكبر. فلنبدأ بثاوفيلس القارئ الأول للوقا.

ثاوفيلس

تدل مقدمة لوقا على أن ثاوفيلس هو راعي لوقا، أي الشخص الذي كلفه بكتابة السفر. وكما رأينا في لوقا 1: 3، وأعمال الرسل 1: 1، كرّس لوقا أعماله إلى ثاوفيلس. وبالإضافة إلى ذلك، دعا لوقا ثاوفيلس في لوقا 1: 3 “العزيز ثاوفيلس”. وقد استخدم لوقا مصطلح “العزيز” أو “kratistos” باليونانية كتعبير عن الاحترام. وأدى هذا المصطلح بالعديد من الناس للاعتقاد بأن ثاوفيلس هو راعيه الثري.
ولكن كانت العلاقة بين لوقا وثاوفيلس أكثر تعقيداً من مجرد الرعاية. حيث أصبح ثاوفيلس تلميذاً للوقا، من خلال قراءة إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل. ويمكننا رؤية هذا الجانب من علاقة ثاوفيلس ولوقا، من خلال مقدمة إنجيل لوقا. نقرأ في لوقا 1: 3-4 هذه الكلمات:

رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ. (لوقا 1: 3-4)

وكما تشير هذه الفقرة، كتب لوقا إنجيله حتى يعرف ثاوفيلس صحة الكلام الذي عُلِّمَ به. ببساطة، كتب لوقا هذا السفر ليُرشد ثاوفيلس.
بعد أن رأينا كيف أن لوقا ذكر ثاوفيلس كقارئه الأول، فمن المفيد أن نفكر أيضاً بجمهور لوقا الأصلي بشكل أوسع.

الجمهور الأوسع

فمن خلال قراءتنا في أماكن أخرى في العهد الجديد، ليس صعباً أن نرى الكنيسة الأوسع نطاقاً في القرن الأول، تعاني عدداً من المشاكل التي تناولها لوقا في سفر أعمال الرسل. حيث ذكر تاريخ لوقا الصراع بين المؤمنين من أصل يهودي والأمميين والانقسامات المبنية على قيادة الرسل والمعلمين المختلفين. ويتناول وصفه الأخطاء العقائدية التي قدمها المعلمون الكذبة. كما ويتناول سفر أعمال الرسل أيضاً الصراع بين الكنيسة والحكومة المدنية. ويركّز على القضايا التي تواجه النساء والفقراء. كما ويسجل الاضطهادات، المعاناة والسجن. ويتناول سفر أعمال الرسل هذه الأنواع من الصعوبات العقائدية الأخلاقية والعملية، لأن الكنيسة الواسعة النطاق عانت من هذه الأنواع من القضايا في عقودها الأولى.
وبما أن لوقا كتب سفر أعمال الرسل لمعالجة مجموعة واسعة من القضايا، فمن المنطقي أن نعتقد أنه قَصَدَ أن يَقرَأ عمله العديد من المؤمنين المختلفين. لقد كان لوقا مهتمٌ بمساعدة ثاوفيلس والكنيسة الأولى بأكملها على التعامل مع العديد من التحديات التي واجهتهم.

السياق الاجتماعي

بعد أن فحصنا التاريخ والقراء الأصليين لسفر أعمال الرسل، نحن مستعدون للانتقال إلى الاهتمام الثالث: السياق الاجتماعي العام لعمل لوقا، أي نوع العالم الذي كُتِب فيه سفر أعمال الرسل. وعندما يزداد فهمنا للقوى الاجتماعية في أيام لوقا، نكون مستعدين بشكل أفضل لفهم العديد من ميزات كتابه.
سوف نستكشف السياق الاجتماعي لسفر أعمال الرسل، بالنظر إلى اثنتين من الميزات الرئيسية للحياة في كنيسة القرن الأول: أولاً، سلطة وسيادة الإمبراطورية الرومانية؛ وثانياً، العلاقة الجديدة بين الكنيسة واليهود. دعونا نبحث أولاً في الإمبراطورية الرومانية.

الإمبراطورية الرومانية

مع حلول الوقت الذي كتب فيه لوقا سفر أعمال الرسل، كانت الإمبراطورية الرومانية قد أخضعت وسيطرت على عالم البحر الأبيض المتوسط بأكمله، وامتد نطاقها إلى ما نعرفه اليوم باسم بريطانيا، شمال أفريقيا وأجزاء من آسيا. وفي أيام الكنيسة الأولى، كانت الإمبراطورية ما تزال تنمو وتضم شعوباً ومناطق أكثر تحت سيطرتها. ولذلك أثرت بشكل عميق، على كل جوانب المجتمع بأهدافها وقيمها ومعتقداتها الرومانية المميَّزة.
وبدون شك كانت التأثيرات السياسية والاقتصادية من أكبر تأثيرات روما على المناطق التي سيطرت عليها. وقد كان أحد الاهتمامات الرئيسية للإمبراطورية الرومانية، ضمان السلام والولاء داخل الإمبراطورية عن طريق السيطرة القوية على السلطات المحلية.
وقد سُمِحَ للأمم المُسَيطَر عليها بقَدْرٍ من الحُكم الذاتي، لكن كثيراً ما كان يتم تعديل الحكومات المحلية وإخضاعها للتسلسل الهرمي الروماني. على سبيل المثال، يذكر سفر أعمال الرسل حاكمين رومانيين لقيصرية، فيلكس وفستوس الَّذَين حكما كل أرض اليهودية من داخل قيصرية. فبالإضافة إلى جمع الضرائب، كانا مسؤولين عن الحفاظ على السلام والنظام في الجزء الخاص بهم من الإمبراطورية الرومانية.
مارست الإمبراطورية الرومانية أيضاً التأثير الثقافي والسياسي من خلال دمج المواطنين الرومان ضمن سكان الأمم المًسَيطَر عليها.
وفي كثير من الأحيان، قدمت روما للقوات العسكرية المتقاعدة أرضاً في مناطق تم السيطرة عليها حديثاً. وقد أنشأت هذه الممارسة مقاطعات من المواطنين الرومانيين الأوفياء في جميع أنحاء الإمبراطورية، وعززت قيم والتزامات روما في كلا الإطارين الرسمي والاجتماعي. ولهذا السبب يذكر سفر أعمال الرسل أشخاصاً رومانيين من وقت لآخر. ومنذ يوم الخمسين، نقرأ في أعمال الرسل (2: 10-11) عن وجود زوّار من روما (سواء كانوا يهود أو متحولين من اليهودية). ويلعب كرنيليوس أيضاً، وهو قائد مئة روماني يخاف الرب، في أعمال الرسل 10 دوراً كبيراً في نشر الإنجيل في سفر أعمال الرسل.
علاوة على ذلك، تأثرت الثقافات المحلية بالمرافق العامة لروما مثل الطرق، المباني المُفَصَّلة، وأماكن الاجتماعات العامة. ويفسر هذا الجانب من دور الرومان قدرة بولس والآخرين على السفر بحرية وأمان في رحلاتهم التبشيرية. وقد استخدم الرسل هذه الأماكن العامة أيضاً لإعلان الإنجيل عند سفرهم من مكان لآخر. ولعل أهم ميّزة للإمبراطورية الرومانية بالنسبة للكنيسة الأولى، تأثيرها على ديانات الشعوب التي سيطرت عليها.
في وقت كتابة لوقا لسفر أعمال الرسل، وقف رجل واحد في مركز الإمبراطورية الرومانية: وهو قيصر. ولم يُنظَر إلى الإمبراطور أو قيصر كسيّد لشعبه وعالمه فقط، بل كان “soter” أو المنقذ لشعبه. وحسب نَشْر الإيمان الروماني، حرر القياصرة شعوبهم من الفوضى والظلام. وقد تم عرض امتداد الإمبراطورية الرومانية كامتداد لخلاصهم، ليحرروا الشعوب من استبداد ملوكهم المحليين، ويجلبوا الجميع تحت حكم روما المُحسنة.
وفي معظم الأماكن، كان مسموحاً للشعوب المُسَيطَر عليها، بمواصلة العديد من ممارساتهم الدينية الخاصة بهم، لكن كان مطلوباً منهم أن يعترفوا بسيادة قيصر والآلهة الرومانية التقليدية. وفي كثير من النواحي كان معظم اليهود والمسيحيين في القرن الأول محترِمين للسلطة الرومانية، بينما رفض المؤمنون اليهود والمسيحيين الاعتراف بسيادة الديانة الرومانية. وقد عيّنت الإمبراطورية الرومانية الإيمان اليهودي على أنه religio licita أو ديانة شرعيّة، وتحملت الإيمان المسيحي قدر الإمكان – رغم أنها ما تزال تُخضِع المجموعتين تحت سيطرتها.
وقد حاولت روما نشر تأثيرها في كل مكان من خلال سيطرتها على الحكومة، السكان، المرافق العامة والدين.
وبعد أن نظرنا في السياق الاجتماعي لسفر أعمال الرسل بالنسبة لتأثيرات الإمبراطورية الرومانية، نحن مستعدين لفحص بُعدٍ حاسمٍ آخرٍ للوضع الاجتماعي الذي كتب فيه لوقا: وهو العلاقة بين اليهود غير المؤمنين والكنيسة المسيحية الأولى.

اليهود

سنتأمل في العلاقة بين اليهود والكنيسة الأولى: أولاً بالإشارة إلى الروابط العميقة بينهما، وثانياً باستكشاف الاختلافات الأساسية. فلنبدأ بالروابط الموجودة بين هاتين المجموعتين. تشاركت الكنيسة الأولى مع اليهود بميراث مشتَرَك. ومن الواضح في العالم الحديث، أنه علينا أن نذكّر أنفسنا بحقيقةِ أن يسوع كان يهودياً، وأن كل الرسل يهود، وفي البداية، تكونت غالبية الكنيسة من اليهود المتحولين. وهكذا، وفي اعتقاد الكنيسة الأولى، يجب ألا نستغرب إذا تضمّن الولاء للمسيّا اليهودي الموعود به، نوعاً من الإخلاص للديانة اليهودية. وفقاً لسفر أعمال الرسل، ثابر العديد من الناس في الكنيسة الأولى على العبادة في الهيكل، التقوا في المجامع لسماع الكتاب المقدس، وحافظوا على الكثير من العادات اليهودية. اصغ على سبيل المثال إلى كلمات بولس في أعمال الرسل 13: 32-33:

وَنَحْنُ نُبَشِّرُكُمْ بِالْمَوْعِدِ الَّذِي صَارَ لآبَائِنَا إِنَّ اللهَ قَدْ أَكْمَلَ هذَا لَنَا نَحْنُ أَوْلاَدَهُمْ إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ. (أعمال الرسل 13: 32-33)

شبّه بولس ومن سافر معه أنفسهم باليهود في المجمع، متكلماً عن رؤساء الآباء على أنهم آبائنا وعن المسيحيين على أنهم لنا، نحن أولادهم. بالإضافة إلى ذلك، كان كلا الكنيسة الأولى والمجتمع اليهودي بشكل عام، ملتزمَيْن بنفس الأسفار المقدسة. فقد لجأ المسيحيون في سفر أعمال الرسل، إلى الكتاب المقدس عند إعلان الإنجيل لليهود. يدوّن أعمال الرسل 17: 1-3 كيفَ توجّه بولس إلى الأسفار المقدسة عند إعلان رسالة المسيح لليهود. اصغ إلى كلمات لوقا هناك:

وَأَتَيَا إِلَى تَسَالُونِيكِي حَيْثُ كَانَ مَجْمَعُ الْيَهُودِ. فَدَخَلَ بُولُسُ إِلَيْهِمْ حَسَبَ عَادَتِهِ وَكَانَ يُحَاجُّهُمْ ثَلاَثَةَ سُبُوتٍ مِنَ الْكُتُبِ مُوَضِّحاً وَمُبَيِّناً أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ. (أعمال الرسل 17: 1-3)

وفوق هذا، أدى الترابط العميق بين المسيحية واليهودية إلى تفاعلات هامة بين السلطات اليهودية والكنيسة الأولى. وحسب سفر أعمال الرسل، كثيراً ما أدت شجاعة الكنيسة الأولى في إعلان إنجيل المسيح إلى الصراع مع السلطات اليهودية. لكن خضع المسيحيون الأوائل للسلطات اليهودية قدر المستطاع، وقاوموهم فقط عندما كانوا يأمروهم بعِصيان وصايا الله.
رغم وجود الترابط العميق بين الشعب اليهودي والكنيسة الأولى، لكن تم تمييزهم من خلال الاختلافات الأساسية. إن أول وأهم هذه الاختلافات هو اختلاف المسيحيين واليهود غير المؤمنين حول شخص يسوع وعمله.
لقد أعلنت الكنيسة أن يسوع هو المسيّا الذي غَلَبَ الموت واستعاد الخليقة كلها، مبتدئا بقيامته من الأموات. لكنّ اليهود غير المؤمنين اعتبروه أمراً مستحيلاً أن يكون المسيّا الموعود به، شخصاً مصلوباً كمجرم. وقد خَلَقَ هذا الاختلاف انشقاقاً بين اليهود المؤمنين واليهود غير المؤمنين، والذي استمر إلى يومنا هذا.
ثانياً، رغم اتفاق الكنيسة الأولى والقادة اليهود على سلطة الكتاب المقدس العبري، إلا أنهم اختلفوا بشدة على التفسير الصحيح للكتاب، وخاصةً ما يتعلق بيسوع. اعتقدت الكنيسة الأولى أن آمال الكتاب المقدس العبري في مجيء المسيّا تحققت في يسوع، لكن اليهود غير المؤمنين أنكروا هذا الفهم. وكان هناك العديد من الأحزاب داخل الديانة اليهودية التي تمسّكت بمجموعة واسعة من وجهات النظر، لكن رأى معظمهم استحالة قبول أن يسوع حقق آمال العهد القديم المتعلقة بالمسيّا.
ثالثاً، اختلف يهود القرن الأول والكنيسة الأولى في نظرتهم للأمم. فبالنسبة للجزء الأكبر، لم يقبل اليهود المخلصين معاشرة الأمم. لكن من ناحية أخرى، انجذب الكثير من الأمميين غير المختونين إلى المعتقدات والتعاليم السلوكية للديانة اليهودية، حتى أنهم ربطوا أنفسهم بالمجامع اليهودية المحلية وعُرِفُوا بخائفي الرب. وقد كانوا مُحتَرَمين أكثر من الأمميين الآخرين، لكنهم لم يكونوا أعضاءً كاملين في المجتمع اليهودي. وقد تضمن تحول الأمميين، المتحوّلين إلى الديانة اليهودية، الخضوع للطقوس المبدئية، بما في ذلك المعمودية، الختان واحترام الشرائع اليهودية.
وعلى الرغم من أن اليهود المؤمنين الأوائل بدأوا بنفس النظرة للأمميين، إلا أنهم فهموا تدريجياً أنه يجب منح الأمميين الذين تبعوا المسيح منزلة كاملة في الكنيسة المسيحية. وفي ضوء الإعلان الجديد للروح القدس، قررت الكنيسة الأولى أن الإيمان بالمسيح المُعبَّر عنه بالاعتراف والمعمودية يكفيان للدخول في عضوية الكنيسة المسيحية. وهكذا، كانت مهمة التلاميذ إعلان إنجيل سيادة المسيح الشاملة لليهود والأمم، وقبِلوا الهدايا والخدمة من كلا الطرفين مع نمو الكنيسة. لقد فهموا أن الله استخدم الأمم لتحقيق وعد الملكوت الذي أعطاه لشعبه في العهد القديم. وليس غريباً أن يؤدي هذا إلى الصراع بين اليهود غير المؤمنين والمسيحيين الأوائل.
إن معرفة بعضِ التفاصيلِ عن الوقتِ الذي كَتَبَ فيه لوقا سفر أعمال الرسل، والقرّاء الذين كتب لهم، والسياق الاجتماعي الذي كتب فيه سيساعدُنا كثيرّا على دراسة السفر. كذلك سنكون مستعدين بشكل أفضل لتقدير المشاكل التي تناولها لوقا، ولفهم الحلول التي طرحها، وتطبيقها على حياتنا اليوم.

الخلفية اللاهوتية

بعد أن تفحّصنا المؤلف والإطار التاريخي لسفر أعمال الرسل، نحن مستعدين لاستكشاف موضوعنا الرئيسي الثالث في هذا الدرس، الخلفية اللاهوتية لسفر أعمال الرسل.
عندما ندرس سفر أعمال الرسل، تتبادر إلى أذهانِنا الكثير من الأسئلة اللاهوتيّة. من أين تعلّم لوقا آراءه اللاهوتيّة؟ كيف قرّر اختيار ما يتناوله في سفرهِ وما يتغاضى عن ذكرهِ؟ ما هي المبادئ الأساسيّة التي وجَّهت كتابته؟ في الواقع، يمكننا إيجاد الإجابات على هذه الأسئلة من خلال التعرّف على خلفيّة لوقا اللاهوتيّة.
ستنقسم مناقشتنا للخلفية اللاهوتية لسفر أعمال الرسل إلى ثلاثة أجزاء. أولاً، سوف نكتشف أسس لاهوت لوقا في العهد القديم. ثانياً، سوف نتأمل في مدى تأثر لاهوت لوقا بمعتقداته عن ملكوت الله المُنتَظَر. وثالثاً، سنرى كيف يساعدنا إنجيل لوقا، وهو أول مجلد للوقا، في فهم رسالة سفر أعمال الرسل. فلنبدأ بأسس العهد القديم التي بُنيَ عليها سفر أعمال الرسل.

العهد القديم

لقد أثر العهد القديم على كتابات لوقا بطريقتين على الأقل. أولاً: تأثر لوقا بشدّة بنظرة العهد القديم للتاريخ بشكل عام. ثانياً: تأثر بشدة بمعالجة العهد القديم لتاريخ إسرائيل على وجه الخصوص. دعونا ننظر أولاً إلى كيف أثرت نظرة العهد القديم للتاريخ بشكل عام على لاهوت لوقا.

التاريخ

تحدث فيلسوف القرن السابع عشر المسيحي بليز باسكال، في كتابه العظيم Pensées أي “الأفكار”، عن ثلاث حقائق عُظمى أدركها البشر على مدى التاريخ. أولاً، أشار إلى جمال الخليقة ومجدها، أي الأعجوبة التي تخللت الكون لأن الله صنع كل شيءٍ حسن. ثانياً، تكلم عن الصراع المحيّر بين المجد الأصلي للخليقة وبؤسها وفسادها الحالي. وثالثاً تحدث باسكال عن الفداء، أي الرجاء بأن يكون هناك حل لهذا الصراع. وتتطابق تأملات باسكال مع تقسيم العهد القديم لتاريخ العالم إلى ثلاث مراحل: الخليقة، السقوط في الخطية، والفداء. وكتب لوقا في أعمال الرسل عن الكنيسة الأولى بطرقٍ تعكِس وجهة النظر الثلاثية للتاريخ هذه.
تأمل في فترة الخليقة. فقد أعد الله العالم في تكوين 1، ليكون امتداداً لملكوته السماوي. حيث خلق الكون؛ وضع جنةً في عدن؛ ووضع البشر، صورته المَلَكية، في تلك الجنة؛ وأمرهم أن يكثروا ويتسلطوا على الأرض، مبتدئين بعَدَن وممتدين إلى كل الكرة الأرضية. باختصار، وضع الله خطة للتطور الكامل لملكوته على الأرض.
يتضح مدى إدراك لوقا لهذه الفكرة الهامة للعهد القديم في عدة أماكن في سفر أعمال الرسل. على سبيل المثال، تحدث بطرس ويوحنا في أعمال الرسل 4: 24-30، عن الخليقة كدليل على سيادة الله المَلَكية على الأرض. وتحدث بولس وبرنابا في أعمال الرسل 14: 15-17 عن الخليقة على أنها الأساس لسلطة الله على الأمم. وأكد استفانوس في أعمال الرسل 7: 49 بأن الله خَلَقَ العالم ليكون موطئ قدميه. اصغ إلى كلمات بولس في أثينا في أعمال الرسل 17: 24-27:

الإِلهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ هذَا إِذْ هُوَ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ… وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ… لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً. (أعمال الرسل 17: 24-27)

لقد وصلت خدمة بولس التبشيرية، وفقاً لهذه الفقرة، إلى الخليقة. إن الله هو الذي خلق العالم وكل ما فيه. ونظّم الأمم “لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ”. وقد توسّعت خدمة بولس التبشيرية خارج نطاق أهداف الله التي أنشأها عند الخليقة.
أشار لوقا من خلال تضمين هذه الأفكار في كتابه، أن موضوع الخليقة مهمٌ لفهمه الخاص للكنيسة الأولى. وبنفس الطريقة، يبرز وعي لوقا بسقوط البشرية في الخطية في مقدمة سفر أعمال الرسل. وكما نَعْلم، يعلّم تكوين 13 أنه بعد أن خلق الله البشرية تمرد آدم وحواء عليه. وكان لهذا التمرد أثراً عظيماً. ووفقاً للعهد القديم، كان للبشرية دور مركزي في العالم، حتى أدى سقوط آدم وحواء في الخطية إلى وقوع الجنس البشري بأكمله تحت حكم الموت، وأفسد الخليقة كلها.
كتب لوقا عن ألم الخطية في عدة أماكن في سفر أعمال الرسل. حيث نجد إشارات للسقوط في عظات بطرس في 2: 38، و3: 19، في دفاع الرسل أمام المجمع في 5: 29-32، في حديث بولس أمام شيوخ أفسس في 20: 18-35، وفي عظة بولس أمام الملك أغريباس في 26: 20.
يوضّح سفر أعمال الرسل أن كل ما في الخليقة – أي العالم المادي، البنية الاقتصادية، أنظمتنا السياسية، وحتى الكنيسة نفسها -كلها تعاني بسبب سقوط البشرية في الخطية.
لحسن الحظ، يشير تاريخ لوقا في سفر أعمال الرسل إلى أنه لم يؤمن بتعليم العهد القديم عن الخليقة والسقوط فحسب، لكنه تبنّى ما قاله العهد القديم عن الفداء. وبقدر ما أفسدت الخطية البشرية والخليقة، عرف لوقا أن الله لم يترك العالم بلا رجاء.
علّمنا العهد القديم أن الله بدأ بفداء شعبه وإنقاذهم من لعنة الخطية منذ اللحظة التي دخلت فيها الخطية للعالم. وأكثر من هذا، تنبأ أنبياء العهد القديم عن اليوم الذي ستُرفع فيه الخطية ولعنتها عن الخليقة. وعندما كتب لوقا سفر أعمال الرسل، كثيراً ما قام بعرض إيمانه بأن هذا الفداء سيأتي إلى العالم من خلال العمل الخلاصي للمسيح. ويظهر هذا الموضوع في جميع أنحاء سفر أعمال الرسل.
نجد هذه المواضيع عن الفداء في: عظة بطرس في 2: 21-40؛ دفاع الرسل أمام المجمع في 5: 29-32؛ كلام الملاك لكرنيليوس في 11: 14؛ حديث بولس في مجمع أَنْطَاكِيَةِ بِيسِيديَّة في 13: 23؛ مجادلة بطرس في مجمع أورشليم في 15: 7-11؛ وكلمات بولس وسيلا لسجّان فيليبي في 16: 30-31.
عندما ندرس سفر أعمال الرسل، يجب أن نتذكر أن لوقا كان متأثراً بنظرة العهد القديم لتاريخ العالم عندما كتب السفر. ولهذا السبب كثيراً ما قام بتسجيل لحظات من القرن الأول، تعكس النطاق الواسع لتاريخ العالم من الخليقة، إلى السقوط في الخطية، إلى الفداء في المسيح.
بعد أن تعرّفنا على نظرة العهد القديم للتاريخ بشكل عام، نحن مستعدون لنتعرف على نظرته لتاريخ إسرائيل على وجه الخصوص، وإلى الطريقة التي اعتمد فيها وصف لوقا في سفر أعمال الرسل على تاريخ هذه الأمة المُميَّزة.

إسرائيل

هناك طرق لا حَصْرَ لها اعتمد فيها لوقا على تاريخ إسرائيل، عندما كتب سفر أعمال الرسل. وحتى نوضّح ذلك، سنركز على ثلاثة أحداث من تاريخ إسرائيل: اختيار الله لإبراهيم، الخروج من مصر تحت قيادة موسى، وتأسيس بيت داود. تأمل أولاً كيف أثر اختيار الله لإبراهيم على التاريخ من وجهة نظر لوقا. يسجل تكوين 12: 1-3 اختيار الله لإبراهيم ليكون أبا لأمة عظيمة، حيث نقرأ:

وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ. وَتَكُونَ بَرَكَةً. وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ. (تكوين 12: 1-3)

دعا الله إبراهيم في هذه الآيات، للذهاب إلى أرض الموعد لسببين رئيسيين.
فمن ناحية، سيكون إبراهيم أباً لأمة عظيمة، سيصبح اسمه عظيماً، وسيحصل على بركات روحية ومادية كثيرة. إن بركات الله لإبراهيم وأنساله من بعده هي مظهرٌ رمزيٌ بأن هناك رجاء في خلاص الله، حتى في هذا العالم الساقط. لكن من الناحية الأخرى، تجاوزت بركات الله إبراهيم وأنساله. فستتبارك من خلال إبراهيم جميع قبائل الأرض. وأصبح إبراهيم وأنساله قناة للبركات الإلهية لكل عائلات الأرض.
يشكل هذا التركيز الثنائي لاختيار الله لإبراهيم الأساس للكثير من أفكار لوقا في سفر أعمال الرسل. فمن ناحية، وصف لوقا مراراً كيف أن بركة الخلاص في المسيح كانت لليهود، الذين هم أنسال إبراهيم، محققةً وعود الله لرئيس الآباء.
لكن من الناحية الأخرى، ركز لوقا أيضاً على كيف أوصل اليهود المؤمنين إنجيل المسيح إلى الأمم. ومرةً تِلوَ الأخرى، وصف لوقا في سفر أعمال الرسل أن يهوداً مثل فيلبس، بطرس، بولس، وبرنابا أوصلوا رسالة الخلاص للأمم. وهذا يحقق وعود الله لإبراهيم أيضاً.
ثانياً تُظهِر وجهة نظر لوقا في سفر أعمال الرسل، فهمه للعلاقة بين موسى والكنيسة المسيحية. كنبي الله، قاد موسى شعب إسرائيل من العبودية في مصر، قدّم لهم ناموس الله، وجعلهم مسؤولين أمامه. وبنفس الناموس، تنبأ موسى بأن الله سيرسل يوماً ما نبياً آخر مثله ليخلص شعبه من عبودية الخطية. وكما أشار لوقا في سفر أعمال الرسل، إن هذا النبي الذي يشبه موسى هو يسوع. اصغ إلى كلمات استفانوس كما سجلها لوقا في أعمال الرسل 7: 37-39:

مُوسَى الَّذِي قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيّاً مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ. هذَا هُوَ الَّذِي كَانَ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْبَرِّيَّةِ مَعَ الْمَلاَكِ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُ فِي جَبَلِ سِينَاءَ وَمَعَ آبَائِنَا. الَّذِي قَبِلَ أَقْوَالاً حَيَّةً لِيُعْطِيَنَا إِيَّاهَا. الَّذِي لَمْ يَشَأْ آبَاؤُنَا أَنْ يَكُونُوا طَائِعِينَ لَهُ بَلْ دَفَعُوهُ وَرَجَعُوا بِقُلُوبِهِمْ إِلَى مِصْرَ. (أعمال الرسل 7: 37-39)

كان يسوع، من وجهة نظر استفانوس، النبي الذي تنبأ عنه موسى. وهكذا، إن رفض يسوع هو رفض لموسى والناموس، مثلما فعل الإسرائيليون القدماء. والالتزام بموسى والناموس يعني قبول المسيح. تأمل كيف لخص لوقا كلمات بولس للقادة اليهود في أعمال الرسل 28: 23:

فَطَفِقَ [بولس] يَشْرَحُ لَهُمْ شَاهِداً بِمَلَكُوتِ اللهِ وَمُقْنِعاً إِيَّاهُمْ مِنْ نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ بِأَمْرِ يَسُوعَ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الْمَسَاءِ. (أعمال الرسل 28: 23)

كان قبول موسى والناموس بالنسبة لبولس والكنيسة الأولى، أمر أساسي للإيمان بيسوع. وأثر هذا الاعتقاد على ما كتبه لوقا في سفر أعمال الرسل.
ثالثاً، تأثر لوقا بوصف العهد القديم لبيت داود. ومن الصعب تخيُّل أن يكون أي موضوع من مواضيع العهد القديم أكثر أهمية، بالنسبة للوقا، من تأسيس بيت داود على أنه البيت الدائم الذي سيسود على إسرائيل.
مع نمو إسرائيل لتصبح إمبراطورية في العهد القديم، اختار الله عائلة داود كالبيت الدائم لقيادة شعبه. لكنّ العهد القديم تنبأ أيضاً باليوم الذي سيقوم فيه بيت داود بنشر حكم الله من إسرائيل إلى العالم أجمع. نقرأ في مزمور 72: 8، 17 ما يلي:

وَيَمْلِكُ [اِبْنُ دَاوُدَ] مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ… وَيَتَبَارَكُونَ بِهِ. كُلُّ أُمَمِ الأَرْضِ يُطَوِّبُونَهُ. (مزمور 72: 8، 17)

كما تُظهِر هذه الآيات، أصبح إبراهيم بركة للعالم من خلال نسله داود. ولن يحقق داود هذا الأمر بنفسه. لكن سيكون أحد أنساله الملِك الذي سيمد سيادته المتّسمة بالخير والسلام إلى العالم كله.
اعتمد لوقا في سفر أعمال الرسل على رجائه في بيت داود. فقد فهم أن يسوع هو ابن داود، أي الحاكم المَلَكي في ملكوت الله، الذي بسط سيادته من أورشليم إلى نهاية الأرض بواسطة الكنيسة. اصغ على سبيل المثال، إلى كلمات يعقوب أمام مجمع أورشليم في أعمال الرسل 15: 14-18:

افْتَقَدَ اللهُ أَوَّلاً الأُمَمَ لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ شَعْباً عَلَى اسْمِهِ. وَهذَا تُوافِقُهُ أَقْوَالُ الأَنْبِيَاءِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ سَأَرْجعُ بَعْدَ هذَا وَأَبْنِي أَيْضاً خَيْمَةَ دَاوُدَ السَّاقِطَةَ وَأَبْنِي أَيْضاً رَدْمَهَا وَأُقِيمُهَا ثَانِيَةً لِكَيْ يَطْلُبَ الْبَاقُونَ مِنَ النَّاسِ الرَّبَّ وَجَمِيعُ الأُمَمِ الَّذِينَ دُعِيَ اسْمِي عَلَيْهِمْ يَقُولُ الرَّبُّ الصَّانِعُ هذَا كُلَّهُ. مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الرَّبِّ مُنْذُ الأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ. (أعمال الرسل 15: 14-18)

أشار يعقوب هنا إلى سفر عاموس 9: 11-12، حيث تنبأ عاموس أن الله سيقيم بيت داود ثانيةً، ويمد سيادته فوق الأمم. وكما أشار هنا، آمن يعقوب أن نجاح وصول الإنجيل إلى الأمم هو تحقيق لرجاء العهد القديم.
أراد لوقا أن يفهم قراؤه أن يسوع هو وريث الوعود لإبراهيم، النبي الذي هو مثل موسى، وآخر الملوك الداوديين أو آخر ملوك بيت داود. وقد صعد يسوع إلى عرشه وسيطر على العالم من خلال إعلان الإنجيل ونمو الكنيسة، وبَسَطَ ملكوت الخلاص من أورشليم إلى أقصى الأرض، تماماً كما تنبأ العهد القديم.

ملكوت الله

بعد أن نظرنا إلى كيفية اعتماد لوقا على العهد القديم، أصبحنا مستعدين لنرى كيف أسهم ملكوت الله المُنتَظَر في بناء الخلفية اللاهوتية لسفر أعمال الرسل.
ستنقسم مناقشتنا لملكوت الله إلى ثلاثة أجزاء. أولاً، سنناقش اللاهوت اليهودي المتعلق بالمسيّا والذي كان سائداً في القرن الأول. ثانياً سنركز على لاهوت يوحنا المعمدان. وثالثاً سنقارن بشكل مختَصَر وجهات النظر هذه مع اللاهوت المسيحي المتعلق بالمسيّا والذي تبناه لوقا. فلنبدأ مع وجهات نظر اللاهوت اليهودي.

اللاهوت اليهودي

بعد كتابة آخر أسفار العهد القديم في القرن الخامس قبل الميلاد، دخلت إسرائيل في فترة من الظلمة الروحية. فقد عاش الغالبية العظمى من الإسرائيليين خارج أرض الموعد لمئات السنين، بينما عانى أولئك الذين بقوا في الأرض من طغيان الحكام الأمميين. حيث كان الكلدانيين في البداية، ثم مادي وفارس، ثم اليونانيين، وأخيراً الرومانيين. وكنتيجة لهذا التاريخ الطويل من المعاناة، أصبح الرجاء في أن يُرسل الله المسيّا المحرِّر إلى إسرائيل، من أكثر الأفكار سيطرةً في اللاهوت اليهودي.
اتَخَذَ الرجاء اليهودي في المسيّا عدة اتجاهات. فقد اعتقد الغيوريون على سبيل المثال أن الله أراد إسرائيل أن تبدأ عهد المسيّا بالتمرّد ضد السلطات الرومانية. في حين آمن عدة مجموعات رؤيويّة أن الله سيتدخّل ليدمر أعداءه ويقيم شعبه كمنتصرين. ويوجد أيضاً فِرَقُ الناموسيين مثل الفريسيين والصدوقيين الذين آمنوا أن الله لن يتدخل حتى تطيع إسرائيل الناموس.
ذكر لوقا في عدة أماكن في سفر أعمال الرسل أن عدة يهود رفضوا وجهة نظر المسيحيين عن ملكوت الله المنتَظَر. ورغم آمال اليهود المختلفة عن المسيّا، رأى لوقا أن تحولاً كبيراً حدث في اللاهوت اليهودي من خلال خدمة يوحنا المعمدان.

يوحنا المعمدان

يشير كلاً من إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل إلى أن يوحنا المعمدان دعا للتوبة الحقيقية، وأعلن الخبر السار بأن المسيّا على وشك تحقيق ملكوت الله على الأرض. وأكثر من هذا، أكّد يوحنا أن يسوع هو ذلك المسيّا. اصغ إلى كلمات يوحنا المعمدان في لوقا 3: 16-17:

أَجَابَ يُوحَنَّا الْجَمِيعَ قِائِلاً أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ وَلكِنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ وَيَجْمَعُ الْقَمْحَ إِلَى مَخْزَنِهِ. وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ. (لوقا 3: 16-17)

أعلن يوحنا المعمدان هنا أن المسيّا سيأتي بالبركة العظيمة وطهارة الروح القدس، بما في ذلك الدينونة. لكن كان لديه الانطباع الخاطئ بأن المسيّا سيقوم بكل هذا في وقت واحد.
لم يتنبأ يوحنا بأن المسيّا سيأتي بالخلاص والدينونة للعالم على مراحل. وفي وقت لاحق، أصبح يوحنا في حيرة من حقيقةِ أن يسوع لم يفعل بعد كل الأشياء التي توقع اللاهوتيين اليهود أن يفعلها المسيّا. وكان يوحنا مضطرباً للغاية حتى أنه أرسل رُسلا ليسألوا يسوع إذا كان هو المسيّا فعلاً. اصغ إلى كيف وصف لوقا سؤالهم وإجابة يسوع في لوقا 7: 20-23:

فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ الرَّجُلاَنِ قَالاَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ قَائِلاً أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ… فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُماَ اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا. إِنَّ الْعُمْيَ يُبْصِرُونَ وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ وَالْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ وَالصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ وَالْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ. (لوقا 7: 20-23)

أشار يسوع، في إجابته لسؤال يوحنا المعمدان، إلى عدد من النبوءات المتعلقة بالمسيّا في سفر اشعياء. وقد فعل هذا ليؤكد ليوحنا أنه سيحقق التوقعات المختلفة لنبوءات العهد القديم المتعلقة بالمسيّا، رغم أنه لم يحققها كلها بعد. وشجّع يسوع يوحنا المعمدان حتى لا يَعثُر بسبب الطريقة التي كان يَظهَر بها عمله المسيّاني.
باختصار، بدت خدمة يسوع المسيّانية مختلفة جداً عما هو متوقَّع. وبحثت الآمال اليهودية المتعلقة بالمسيّا، عن مملكة سياسية أرضية فورية تحت حكم المسيّا، مماثلة للمملكة التي حكمها داود قبل قرون. لكن لم يحاول يسوع إنشاء مملكة كهذه خلال خدمته على الأرض.
بعد أن بحثنا في اللاهوت اليهودي المتعلق بالمسيّا وفي لاهوت يوحنا المعمدان، نحن مستعدين للتوجه إلى اللاهوت المسيحي المتعلق بالمسيّا وملكوت الله.

اللاهوت المسيحي

يرتبط اللاهوت المسيحي المتعلق بالمسيّا في كتابات لوقا، كما في باقي كتابات العهد الجديد، بالإنجيل المسيحي أو الأخبار السارة. ويمكننا تلخيص رسالة إنجيل العهد الجديد بهذه الطريقة:

الإنجيل هو الإعلان بأن ملكوت الله على الأرض سيأتي من خلال شخص وعمل يسوع، أي المسيّا، وأن الملكوت سيمتد نحو اكتماله العظيم، عندما يمنح الله الخلاص لأولئك الذين يقبلون ويثقون بيسوع على أنه المسيّا.

ستلاحظ أن رسالة الإنجيل تضم فكرتين رئيسيتين. فمن ناحية، نجد ما يمكن تسميته بالجانب الموضوعي من الإنجيل المسيحي. أي أن ملكوت الله على الأرض سيأتي من خلال شخص وعمل يسوع. حيث آمن لوقا أن يسوع، باعتباره المسيّا، بدأ المرحلة الأخيرة لملكوت الله على الأرض، وأنه سيعود يوماً ما ليكمل ما بدأه.
ومن ناحية أخرى، كان لرسالة إنجيل العهد الجديد جانب ذاتي. حيث أعلنت أن المرحلة الأخيرة لملكوت الله ستمتد نحو اكتماله العظيم، عندما يمنح الله الخلاص لأولئك الذين يقبلون ويثقون بيسوع على أنه المسيّا. وتتقدم سيادة ملكوت الله على العالم عندما يلمس الإنجيل قلوب أولئك الذين يؤمنون، ويأتي بهم إلى الخلاص الذي حققه يسوع.
لفت لوقا الانتباه في سفر أعمال الرسل إلى هذين البعدين للإنجيل. فقد ركز في الجانب الموضوعي، على حقائق عمل الله العظيم للخلاص في المسيح. حيث سجل إعلان الكنيسة أن يسوع مات من أجل خطايا شعبه، أنه قام من بين الأموات، أنه يملك عن يمين الله الآب، وأنه سيعود ثانيةً في المجد. اصغ على سبيل المثال، إلى وصف لوقا لعظة بطرس في يوم الخمسين في أعمال الرسل 2: 22-24:

يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ… هذَا أَخَذْتُمُوهُ … وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ. اَلَّذِي أَقَامَهُ اللهُ. (أعمال الرسل 2: 22-24)

لاحظ أن إعلان بشارة بطرس يتضمن الحقائق الموضوعية لحياة المسيّا، أي الموت والقيامة. لكنّ لوقا لفت الانتباه أيضاً إلى الجوانب الذاتية للإنجيل. حيث أكد وفي عدة مناسبات على أهمية تبني الناس الشخصي لحقيقة المسيح حيث أنها غيرت حياتهم. على سبيل المثال، يتضمن وصف لوقا لعظة بطرس في يوم الخمسين هذه الكلمات في أعمال الرسل 2: 37-38:

فَلَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ وَقَالُوا … مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ. فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. (أعمال الرسل 2: 37-38)

يؤثر الإنجيل المسيحي في قلوب من يسمعوه. وليس الأمر مجرد اعتراف بالحقائق، بل قبول المسيح المُغيِّر للحياة ومن كل القلب.
كما سبق وقلنا، اعتقد اللاهوت اليهودي في القرن الأول، أن المسيّا سيؤسس مملكة سياسيّة فورية على الأرض. لكن علّم يسوع ورسله أن ملكوت المسيّا ينمو تدريجياً من خلال نمو الكنيسة والتغيير الشخصي للناس. وهذا هو أحد أسباب تركيز لوقا على تحوُّل غير المؤمنين من خلال إعلان الإنجيل. فقد فهم أن هذه هي الطريقة التي سيمتد بها ملكوت الله المُنتَظَر في العالم أجمع.
بعد أن بحثنا في الخطوط الخارجية لرؤية العهد القديم، يجب أن نضع في اعتبارنا الجانب الثالث للخلفية اللاهوتية لسفر أعمال الرسل: أساسها في إنجيل لوقا.

إنجيل لوقا

عند قراءتنا لسفر أعمال الرسل، يجب أن نتذكر دائماً أن هذا السفر هو المجلّد الثاني من المجلّدات التي كتبها لوقا لثاوفيلس. وقد قصد لوقا أن يتم قراءة هذين السفرين معاً. وشكّل الإنجيل الجزء الأول من القصة وسفر أعمال الرسل الجزء الثاني منها. وهكذا، حتى نقرأ سفر أعمال الرسل بشكل صحيح، علينا أن نفهم أنه يكمّل القصة التي بدأت في الإنجيل.
هناك عدة طرق يجهّزنا بها إنجيل لوقا لفهم رسالة سفر أعمال الرسل. ولكن من أجل أهدافنا سنركز على موضوع ملكوت الله الذي يمتد على كلا المجلّدين. فقد أسس يسوع، في إنجيل لوقا، النموذج أو الهدف من ملكوت الله وأعّد رسله لإكمال عمله بعد صعوده. وفي سفر أعمال الرسل صعد يسوع إلى السماوات وترك رسله مسؤولين عن نشر ملكوته من خلال الإنجيل وبمساعدة الروح القدس.
سوف ندرس طريقتين يُعِدُّ بهما إنجيل لوقا الطريق لعمل الرسل في بناء الملكوت في سفر أعمال الرسل. أولاً: سوف نتأمل في يسوع كالشخص الذي أتى بالملكوت. وثانياً: سوف نكتشف دور الرسل في استمرار نشر الملكوت بعد صعود يسوع إلى السماء. فلنبدأ مع يسوع كالشخص الذي أتى بملكوت الله.

يسوع

وصف لوقا يسوع في إنجيله، بالنبي الذي أعلن مجيء ملكوت الله، والملك الذي يُقوي الملكوت بالصعود إلى عرشه. وتحدث يسوع نفسه عن هذه الأفكار في عدة أماكن. لكن للتوضيح، سنعرض مرتين فقط ذكرها يسوع في خدمته العامة. فمن ناحية تكلم يسوع في لوقا 4: 43 بهذه الكلمات في بداية خدمته العامة:

يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ … بِمَلَكُوتِ اللهِ لأَنِّي لِهذَا قَدْ أُرْسِلْتُ. (لوقا 4: 43)

ومن الناحية الأخرى، في نهاية خدمته العامة، وقبل دخوله المُنتصِر إلى أورشليم، حيث بُشِّرَ به كملك، حكى يسوع مَثَل الوزنات العشر في لوقا 19: 12-27. حيث شرح كيف أن الملكوت سيأتي ببطء. وقد أَمِلَ معظم اليهود في يومه بملكوت كامل يأتي سريعاً. لكنّ يسوع علّم أنه سيأتي بالملكوت ببطء وعلى مراحل. لقد بدأ يسوع إنشاء الملكوت، لكنه سيغيب لفترة طويلة ليتم تتويجه ملكاً، وسوف يُكمِل ملكوته عندما يعود. اصغ إلى الطريقة التي يبدأ بها مثل العشر وزنات في لوقا 19: 11-12:

[فَقَالَ يَسُوْعُ] مَثَلاً لأَنَّهُ كَانَ قَرِيباً مِنْ أُورُشَلِيمَ وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْحَالِ. فَقَالَ. إِنْسَانٌ شَرِيفُ الْجِنْسِ ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مُلْكاً وَيَرْجعَ. (لوقا 19: 11-12)

لاحظ ما حَدَثَ هنا. كان يسوع على وشك الدخول إلى أورشليم ليُعلَن ملكاً، لكنه لم يُرِد أن يظن الناس أنه سينصِّبُ نفسه ملكاً أرضياً في تلك الأيام. بدلاً من ذلك كان سيرحل لمدة طويلة، حتى يحصل على مُلكِه، ثم سيعود ليحكم ملكوته على الأرض في المستقبل.
وهذا ما حدث تماماً. لقد قُبِضَ على يسوع في أورشليم وتم صلبه. ثم قام من الأموات وصعد إلى السماء حيث تسلَّم مُلكه من الآب. وينبغي أن يعود ليكمّل ملكوته.
بعد أن فهمنا الطريقة التي برهن بها إنجيل لوقا أن يسوع هو الشخص الذي سيأتي بالملكوت، سننتقل إلى الموضوع الثاني في هذا الإنجيل: وهو دور الرسل في نشر الملكوت من خلال الإنجيل.

الرسل

طلب يسوع من رسله، في الليلة السابقة لصلبه، أن يكملوا عمله في نشر الملكوت. اصغ لكلماته لهم في لوقا 22: 29-30:

وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً، لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ. (لوقا 22: 29-30)

عيّن يسوع رسله كقادةٍ وقضاةٍ في ملكوته. وكانت وظيفتهم، معتمدةً على الروح القدس، ليكملوا من حيث انتهى، في إعلان ونشر إنجيل الملكوت ليشمل العالم كله.
وهكذا، نُدرك أن إنجيل لوقا أكّد أن تأسيس الملكوت هو مهمة يسوع الأساسية، وأنه كلف الرسل بإكمال مهمته بعد صعوده إلى السماء.
يبدأ سفر أعمال الرسل حيث انتهى إنجيل لوقا. حيث يبدأ بشرح لوقا أن يسوع أمضى وقتاً مع الرسل بعد قيامته وقبل صعوده إلى السماء ليعلّمهم. اصغ إلى ما يقوله لوقا في أعمال الرسل 1: 3-8:

أَرَاهُمْ [يَسُوْعُ] أَيْضاً نَفْسَهُ … وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ. وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، بَلْ يَنْتَظِرُوا مَوْعِدَ الآبِ … وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ لَيْسَ بَعْدَ هذِهِ الأَيَّامِ بِكَثِيرٍ… فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ يَا رَبُّ هَلْ فِي هذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ لَهُمْ لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ. لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ. (أعمال الرسل 1: 3-8)

شجع يسوع أتباعه، مرة أخرى، حتى لا يبحثوا عن إكمال فوري للملكوت. بدلاً من هذا، أكد أن الرسل سيكونوا مسؤولين عن إتمام مهمته بإعلان الإنجيل للعالم أجمع.
وهذا ما فعله الرسل في سفر أعمال الرسل. فقد بنوا الكنيسة كالشكل الحالي لملكوت الله. وأوصلوا بشارة الملكوت إلى شعوبٍ وأراضٍ جديدة، ونشروها من أورشليم، إلى اليهودية، السامرة، وإلى أقصى الأرض. اصغ إلى الطريقة التي ختم بها لوقا السفر في أعمال الرسل 28: 30-31:

وَأَقَامَ بُولُسُ سَنَتَيْنِ كَامِلَتَينِ فِي بَيْتٍ اسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ. وَكَانَ يَقْبَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ إِلَيْهِ كَارِزاً بِمَلَكُوتِ اللهِ وَمُعَلِّماً بِأَمْرِ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ بِلاَ مَانِعٍ. (أعمال الرسل 28: 30-31)

لاحظ أنه بدلاً من القول إن بولس كرز “بالإنجيل”، قال لوقا أن بولس كرز بملكوت الله. وينتهي سفر أعمال الرسل مثلما بدأ، مشدداً على دور الرسل في نشر ملكوت الله على الأرض من خلال إعلانهم عنه.
عندما نقرأ سفر أعمال الرسل، علينا أن نتذكر دائماً أن لوقا كتب هذا السفر من خلفيته عن العهد القديم ومعتقدات القرن الأول عن ملكوت الله في المسيح. ولابد أن نتذكر أيضاً أن سفر أعمال الرسل يتبع إنجيل لوقا في تسجيل أن ملكوت الله الذي بدأ من خلال خدمة المسيح، استمرّ من خلال عمل الرسل والكنيسة الأولى، بينما كانوا يعتمدون على تعضيد الروح القدس.

الخاتمة

لقد تفحصنا في هذا الدرس مؤلف سفر أعمال الرسل؛ وصفنا إطاره التاريخي؛ وفحصنا خلفيته اللاهوتية. وستساعدنا هذه التفاصيل في فهم المعنى الأصلي لسفر أعمال الرسل وفي كيفية تطبيقه على حياتنا.
وبينما نستمر في هذه السلسلة، سنرى أن خلفية سفر أعمال الرسل تفتح أمامنا العديد من النوافذ لفهمهِ بصورةٍ أعمق. سنكتشف أن سجل لوقا، الموحى به، عن الكنيسة الأولى قاد ثاوفيلس والكنيسة الأولى نحو خدمةٍ أمينةٍ للمسيح. كذلك سنرى كيف يُقدّم سفر أعمال الرسل إرشادًا هامًا للكنيسة اليوم، ونحن نستمر في إعلان بشارة الملكوت في عالمنا هذا.

والآن، ها هي فرصتك للحديث معنا عما تفكّر فيه
يا صديق، نحن نريد أن نساعدك في رحلة الإيمان. الخطوة التالية هي أن ترسل لنا برغبتك في المعرفة والإيمان لنتواصل معك، فنشجعك ونصلي من أجلك. نحن نتعامل بحرص وسرية مع كل رسائل الأصدقاء