أبونا إبراهيم

الدرس الثالث

حياة إبراهيم: التطبيق العصري

المقدمة. كيف خلص ابونا ابراهيم بدون المعمودية؟

إن كانَ هناكَ أمرٌ واحدٌ يجدَهُ العديدُ من الناسِ المعاصرين صعباً بشأنِ الكتاب المقدس، فهو هذا. من الصعبِ أن نتخيّلَ أن لقصصٍ مكتوبةٍ منذُ آلافِ السنين القدرةَ على إرشادِ حياتِنا اليوم.
وينطبقُ هذا الأمرُ على سجلِ حياةِ إبراهيم في الكتابِ المقدس. فقد عاشَ إبراهيم منذُ حوالي أربعةِ آلافِ سنة، وكُتِبَت القصصَ المدوّنةَ عنهُ منذُ ما يقربُ من ثلاثة آلاف وستمئة سنة. لكن كأتباعٍ للمسيح، نحن ملتزمونَ بحقيقةِ أن هذه القصصُ هي جزءٌ من الكتابِ المقدس، ولذا فهي نافعةٌ حتى للناس المعاصرين.
لكن بالرغمِ من هذا الالتزام، يبقى السؤالُ الذي يَطرحُ نفسَهُ: كيف تنطبقُ هذه القصص عن حياةِ إبراهيم على حياتِنا اليوم؟ وكيفَ يمكنُنَا سدُ فجوةَ الأربعة آلاف سنة التي تفصِلُنَا عن إبراهيم؟
لقد أعطينا هذه السلسلة عنوان أبونا إبراهيم لأننا نستكشف حياة إبراهيم كما تظهر في سفر التكوين. هذا هو الدرس الثالث من الدروس التمهيديةِ الثلاثة في هذه السلسلة، وقد أعطيناه عنوان: “حياة إبراهيم: التطبيق العصري”. سوف نختم نظرتنا الشاملة عن حياة إبراهيم، في هذا الدرس، بالتركيز على الطريقة الصحيحة التي نستخرج بها التطبيقات العصرية من إصحاحات سفر التكوين التي تتحدث عن إبراهيم. كيف ينبغي علينا تطبيق القصص عن حياة إبراهيم على حياتنا؟ وما هي أنواع التأثير التي ينبغي أن تكون لها علينا اليوم؟
حتى ندرك كيف تنطبق حياة إبراهيم على عالمنا، سننظر في اتجاهين رئيسيين. أولاً، الروابط الموجودة بين إبراهيم ويسوع، وثانياً الروابط الموجودة بين قرّاء إسرائيل الأصليين وقرّاء الكنيسة المعاصرين.
وقبل أن ننظر إلى التطبيق العصري لحياة إبراهيم، علينا أن نراجع ما رأيناه في الدروس السابقة. لقد تعلّمنا أن قصة إبراهيم تنقسم إلى خمس خطوات متناظرة. أولاً، سوف نبدأ بخلفية إبراهيم وخبراته السابقة في 11: 10-12: 9. ثانياً، يركز العديد من الحلقات على اتصالات إبراهيم السابقة مع الشعوب الأخرى في 12: 10-14: 24. ويركز الجزء الثالث والرئيسي على العهد الذي أقامه الله مع إبراهيم في 15: 1-17: 27. بينما يتجه الجزء الرابع إلى اتصالات إبراهيم اللاحقة مع الشعوب الأخرى في 18: 1-21: 34. ويتعامل الجزء الخامس مع ذرّية إبراهيم ووفاته في 22: 1-25: 18. تعرض هذه الخطوات الخمس حياة رئيس الآباء بشكل متناظر. حيث يخدم الجزء الثالث، والذي يتناول عهد الله مع إبراهيم، كالجزء الرئيسي من حياة إبراهيم. ويتطابق الجزءان الثاني والرابع لأنهما يركزان على اتصالات إبراهيم مع الآخرين. ويتوافق الجزءان الأول والأخير مع بعضهما، بتزويدنا ببدايات ونهايات لحياة إبراهيم، متتبعين سلسلة نسب عائلته من الماضي إلى المستقبل. وبالإضافة للبنّية الأساسية لحياة إبراهيم، رأينا في دروس سابقة أنه كان لموسى هدف من كتابة سيرة حياة إبراهيم. كتب موسى عن إبراهيم ليعلّم بني إسرائيل لماذا وكيف أن عليهم ترك مصر وراءهم وأن يستمروا نحو احتلال أرض الموعد. بعبارة أخرى، إن رؤية الخلفيات التاريخية لحياتهم في شخص إبراهيم، إيجاد نماذج وأمثلة للاقتداء بها أو رفضها في قصص إبراهيم، وتمييز كيف أنذرت حياته عما يحصل في حياتهم، مكّن الإسرائيليين الذين يتبعون موسى من رؤية الطرق التي كان عليهم أن يسعوا من خلالها لتحقيق مقاصد الله لأجلهم. بعد مراجعتنا للدروس السابقة، أصبحنا مستعدين لمناقشة التطبيق العصري لقصة حياة إبراهيم. دعونا ننظر أولاً إلى الروابط الموجودة بين إبراهيم ويسوع.

إبراهيم ويسوع

للأسف، يُطبّقُ المسيحيون، في كثيرٍ من الأحيان، حياةَ إبراهيم على الحياةِ العصرية بشكلٍ مباشرٍ إلى حدٍ ما. فنحن نقتربُ من قصصِ إبراهيم كقصصٍ أخلاقيةٍ بسيطةٍ تتحدثُ إلى حياتِنا بشكلٍ مباشرٍ. لكننا نعلمُ كمسيحيين أن هناك وسيطاً في علاقتِنا مع إبراهيم؛ فحياةُ إبراهيم وثيقةُ الصلةُ بنا لأننا انضممنا إلى نسلهِ الخاص، أي المسيح. فالمسيحُ يقفُ بيننا وبين إبراهيم. ولهذا السبب، علينا أن ننظرَ دائماً للقصصِ الكتابية المتعلقةُ بإبراهيم في ضوءِ شخصِ المسيح وما فعلَه.
حتى ندرك الروابط بين رئيس الآباء والمسيح، سنتطرق إلى قضيتين. فمن ناحية، سوف نكتشف كيف يعلّم العهد الجديد أن المسيح هو نسل إبراهيم. ومن ناحية أخرى، سوف نرى كيف تنطبق المواضيع الرئيسية الأربعة التي لاحظناها في حياة إبراهيم، على المسيح كونه نسل إبراهيم. دعونا ننظر أولاً إلى مفهوم أن يسوع هو نسل إبراهيم.

نسل إبراهيم

يوجد انطباع بأن إبراهيم هو أب كل المؤمنين على مدى التاريخ، سواء كانوا رجالاً، نساء، أو أطفالاً. فكلنا جزء من عائلته، أولاده، وورثته. لكن كما سنرى، يوضّح العهد الجديد بأننا نتمتع بهذا المركز لأننا انضممنا إلى المسيح، الذي هو نسل إبراهيم الخاص. حتى نفهم تعليم الأسفار المقدسة من هذا المنظور، سنتطرق إلى مسألتين بإيجاز. أولاً، فردية مفهوم “النسل”، وثانياً مفهوم المسيح كنسل إبراهيم الفريد من نوعه. دعونا نستعرض أولاً الطرق التي يلفت بها الكتاب المقدس انتباهنا إلى فردية مفهوم نسل إبراهيم.

الفردية

وقد تكون الآية الأكثر أهمية والتي تركّز على هذه القضية هي رسالة غلاطية 3: 16. حيث نجد هذه الكلمات:

‎ وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ. لاَ يَقُولُ: «وَفِي الأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ: «وَفِي نَسْلِكَ» الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ. (غلاطية 3: 16).

أشار بولس في هذه الآية إلى حقيقةِ أن الله أعطى وعوداً لإبراهيم ونسله أو ذريته في سفر التكوين. لكن لاحظ كيف علّق بولس على كلمة “نسل” بشكل خاص، قائلاً إن الله لم يعطي الوعود لإبراهيم وأنساله، أي لكثيرين، لكن لإبراهيم ونسله، أي لشخصٍ واحدٍ وهو المسيح.
وقد قدّم بولس حجتّه بالإشارة إلى أن الكلمة العبرية zera، والتي تُترجَم “نسل” وردت بصيغة المفرد. وينطبق الشيء ذاته على الكلمة اليونانية sperma في الترجمة اليونانية للعهد القديم والتي كانت موجودة في زمن بولس. وكما أشار بولس أن الله لم يقل لإبراهيم بأن الوعد كان له ولأنساله (في صيغة الجمع)، لكن لنسلك في صيغة المفرد.
قد تبدو وجهة نظر بولس صريحة. حيث انتقل ميراث إبراهيم إلى نسل واحد لأن الكلمة هي في صيغة المفرد. لكن حجة بولس عن فرديّة كلمة “نسل” أثارت صعوبات كثيرة بالنسبة للمفسّرين. ويمكن طرح المشكلة بهذه الطريقة. صحيح أن كلمة “نسل” أو zera هي في صيغة المفرد، لكن في أحيان كثيرة في العهد القديم، بما في ذلك في قصص حياة إبراهيم، يجب اعتبار كلمة “نسل” بصيغتها المفردة على أنها مفردة في الصيغة جماعية في المعنى، أي أنها كلمة مفردة تشير إلى مجموعة. إن الكلمة العبرية zera أو “نسل” تشبه الكلمة الإنجليزية “offspring”. فمع أن هذه الكلمة في صيغة المفرد، إلا أنها قد تشير إلى “نسل” واحد أو ذرية واحدة فقط، كما يمكن أن تشير إلى ذريات أو “أنسال” كثيرين بشكل جماعي.
على سبيل المثال، إن مصطلح “نسل” أو zera هو حتماً جمع في معنى في تكوين 15: 13. حيث نقرأ هناك الكلمات التي تحدث بها الله إلى إبراهيم:

اعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيباً فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَهُمْ وَيُسْتَعْبَدُونَ لَهُمْ. فَيُذِلُّونَهُمْ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ (تكوين 15: 13).

إن كلمة “نسلك” هنا هي ترجمة للكلمة العبرية المفردة zera، لكن من الواضح أن الكلمة أتت بمعنى الجمع. وتتحدث هذه الآية عن النسل “لَيْسَتْ لَهُمْ” في صيغة الجمع، والأفعال “وَيُسْتَعْبَدُونَ لهم فَيُذِلُّونَهُمْ” والتي هي أيضاً في صيغة الجمع في اللغة العبرية.
وبالطبع، عرف بولس أن صيغة المفرد لكلمة “نسل” أشارت عدة مرات إلى أكثر من شخص واحد في سفر التكوين. في الواقع، استخدم بولس بنفسه كلمة نسل بصيغة الجمع في رسالة غلاطية 3: 29، حيث كتب الكلمات التالية:

فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ (غلاطية 3: 29).

تُترجم عبارة “أَنْتُمْ” في هذه الآية إلى este في اللغة اليونانية، وهي فعل في صيغة الجمع. وعبارة “نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ” مرادفة لكلمة “ورثة” kleronomoi والتي هي في صيغة الجمع أيضاً.
وفي ضوء هذا يتعين علينا أن نطرح هذا السؤال. إذا كان بولس على علم بأن الصيغة المفردة لكلمة “نسل” يمكن أن تشير إلى أكثر من شخص واحد، لماذا شدّد إذاً على فرديتها؟ فكّر بولس، على الأغلب، بفقرة واحدة على وجه التحديد في حياة إبراهيم، تكوين 22: 16-18، حيث أشارت كلمة “نسل” في هذه الآيات إلى المعنى المفرد حتماً. اصغِ إلى الترجمة الحرفية لهذه الآيات:

بِذَاتِي أَقْسَمْتُ يَقُولُ الرَّبُّ. أَنِّي مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ … َلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ أُبَارِكُكَ مُبَارَكَةً وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ تَكْثِيراً كَنُجُومِ السَّمَاءِ وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ. وَيَرِثُ نَسْلُكَ بَابَ أَعْدَائِهِ. وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ. مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِي (تكوين 22: 16–18).

للأسف، يفسر العديد من الترجمات الحديثة هذه الفقرة وكأن كلمة “نسل” هي مفردة في الصيغة جماعية في المعنى. لكن علينا أن نتذكر أن هذه الآية هي جزء من قصة تقديم إسحاق كذبيحة. ولم تُشر كلمة “نسل” هنا إلى أنسال إبراهيم بشكل عام، لكنها أشارت إلى إسحاق، ابن إبراهيم. والفعل “يرث” هو في صيغة المفرد في اللغة العبرية، كما أن الضمير في عبارة “أعدائه” هو في صيغة المفرد أيضاً.
وكما سنرى في دروس لاحقة، أمضى تكوين 22 والإصحاحات التي تليه وقتاً في التمييز بين إسحاق ابن سارة وبين أبناء إبراهيم الأخرين، أي أبناء هاجر وأبناء قطورة. كان إسحاق نسل الوعد الخاص، الشخص الذي اختاره الله ليكون وريث إبراهيم الوحيد. وهكذا، وقبل ولادة إسحاق، يتحدث سفر التكوين عادة عن “نسل” إبراهيم في صيغة الجمع، أي “أنسال” في صيغة الجمع. لكن تركز الكلمة هنا على إسحاق على أنه النسل الوحيد الخاص الذي سيرث وعود إبراهيم.
في ضوء هذا، يمكننا أن نفهم نقطة بولس الأساسية عندما أشار إلى نسل إبراهيم الوحيد. وأشار بولس في تكوين 22 إلى أن الله لم يعطي الوعود لإبراهيم ومباشرةً لجميع أنساله. لكنه بيّن أن فردية كلمة “نسل” في تكوين 22: 16-18 تشير إلى أن الوعود أُعطيت إلى إسحاق، ابن إبراهيم الخاص ووريثه.

المسيح كالنسل

بعد أن ناقشنا فردية نسل إبراهيم، يجب أن ننتقل الآن إلى التعليم بأن المسيح هو نسل إبراهيم. اصغِ ثانية إلى ما قاله الرسول بولس في غلاطية 3: 16:

‎ وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ. لاَ يَقُولُ: «وَفِي الأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ: «وَفِي نَسْلِكَ» الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ. (غلاطية 3: 16).

لم يلفت بولس الانتباه في هذه الفقرة إلى حقيقةِ أن نسل إبراهيم كان بصيغة المفرد فحسب، بل إلى أن النسل الوحيد لإبراهيم هو المسيح. لكن كما رأينا سابقاً، بالنسبة للمعنى الأصلي لسفر التكوين، فإن نسل إبراهيم الوحيد والذي كتب عنه موسى هو إسحاق، ابن الوعد الخاص والمولود من سارة. كيف نفهم بولس إذاً عندما كتب أن نسل إبراهيم الوحيد هو يسوع؟
انظر إلى الأمر بهذه الطريقة. كان ميراث إبراهيم ميراثاً عائلياً ينتمي لأنساله. ولكن اختار الله، في عدد من النقاط الحاسمة في تاريخ الكتاب المقدس، عدة شخصيات رئيسية ليكونوا بمثابة ورثة خاصين، حصلوا على ميراث إبراهيم ووزعوه على الآخرين. ففي حالة إسحاق، كان إسحاق النسل الخاص المتميز عن أبناء إبراهيم الآخرين. وعندما وُلِدَ ابنا إسحاق، يعقوب وعيسو، اختار الله يعقوب ليكون النسل الخاص لإبراهيم واستثنى عيسو وأنساله. وأتى من يعقوب رؤساء الآباء الاثنا عَشَر لأسباط إسرائيل. لكن كان بين أسباط إسرائيل، عدة شخصيات هم بمثابة ورثةٍ خاصين لإبراهيم. حيث كان موسى على سبيل المثال قائداً ووسيطاً بين الله والشعب عندما انتقل بنو إسرائيل من مصر إلى أرض الموعد. وفي وقت لاحق، عندما أصبحت إسرائيل إمبراطورية متنامية، قام داود وأبناؤه بدور خاص كوسطاء في ميراث إبراهيم.
إن هذا الدور الخاص لداود وأبنائه دفع بولس للإشارة إلى المسيح على أنه نسل إبراهيم العظيم الأخير، لأن يسوع هو الوريث الشرعي لعرش داود، حيث اختاره الله ليكون الملك الأزلي لشعبه. إنه نسل إبراهيم الملوكي الأزلي العظيم، أي المسيّْا. ولهذا السبب، فإن المسيح هو الشخص الوحيد الذي يمكن لأي فرد أن يشارك بواسطته في ميراث إبراهيم. ولن يحصل أي شخص منفصل عن المسيح على وعود إبراهيم.
وهكذا، يُمكنُنَا تلخيصُ علاقةُ المسيح بالنسبةِ لإبراهيم بالطريقةِ التالية. إن المسيحَ، من وجهةِ النظرِ المسيحيةِ، هو نسلُ إبراهيم الفريد والنهائي. وكمسيحيين، عندما نَوَدُ تطبيقَ حياةَ إبراهيم على عالمِنا المعاصر، يجب أن نتذكرَ دائماً أن الرابط بين إبراهيم وعالمنِا هو انتقالُ بركاتِ إبراهيم العظيمة إلى المسيح عندما أسسَ ملكوتَه، وبينما يستمرُ في بناءِ ملكوتِه الآن، وعندما يحقّقُ اكتمالَ ملكوتِهِ.
يعلّم العهد الجديد أن المسيح يحصل على ميراث إبراهيم ويوزعه في ثلاث مراحل رئيسية. أولاً، في تأسيس ملكوته الذي حدث عند مجيئه الأول. ثانياً، في استمرارية ملكوته الذي يمتد في كل التاريخ بعد مجيئه الأول وقبل مجيئه الثاني. وثالثاً، عند اكتمال ملكوته في مجيئه الثاني المجيد. وهو يستمر في الحصول على ميراث إبراهيم وتوزيعه بمعايير متزايدة، بينما يملك على الجميع عن يمين الله الآب. وسيحصل يوماً ما، على ميراث إبراهيم ويوزعه كاملاً عندما يعود ثانية في المجد.
باختصارٍ، من المهمِ أن ندركَ أنه في غلاطية 3: 16 لَخَّصَ بولس في بضعِ كلماتٍ وجهةَ نظرٍ لاهوتيةٍ معقدةٍ نوعاً ما. فعندما قالَ بولس أن الوعدَ كان لإبراهيم ولنسلِهِ المفرد، ثم حدّدَ أن ذلكَ النسلُ هو المسيح، فإنه لم يقل أن كلمةُ نسل في سفرِ التكوين تُشيرُ إلى المسيحِ بشكلٍ مباشرٍ. بدلاً من ذلكَ، تحدثَ بولس بطريقةٍ مختصرةٍ لعلمِ تفسير الرموز بين إسحاق والمسيح. ولكي نعرضَ القضيةُ بطريقةٍ كاملةٍ، يمكننا صياغتُها على هذا النحو: مثلما كان إسحاق الوريثَ الرئيسيّ لإبراهيم في جيلِهِ، فإن المسيح هو أعظمُ أبناءُ إبراهيم، والوريثُ الرئيسيّ لإبراهيم في زمنِ العهد الجديد.

المواضيع الرئيسية

حتى نرى أهمية المسيح كنسل إبراهيم بصورة أشمل، سيساعدنا أن نستكشف هذه القضايا بالنسبة للمواضيع الرئيسية الأربعة التي ذكرناها في قصص إبراهيم. ستتذكر أننا رأينا أربعة مواضيع رئيسية في هذه الإصحاحات من سفر التكوين: النعمة الإلهية تجاه إبراهيم، ولاء إبراهيم لله، بركات الله لإبراهيم، وبركات الله من خلال إبراهيم. كيف ينبغي علينا فهم هذه الأفكار الرئيسية في ضوء الروابط الموجودة بين إبراهيم والمسيح؟

النعمة الإلهية

أولاً، لقد رأينا أن الله أظهر نعمة عظيمة في حياة إبراهيم. بالطبع، كان لابد أن يحصل إبراهيم على نعمة شخصية لأنه كان خاطئاً، لكن فوق هذا، كانت رحمة الله نحو إبراهيم عرضاً ظاهراً للطفه أيضاً. وببناء علاقة مع إبراهيم، عزّز الله فداء العالم بأكمله بالفعل.
وبقدر ما أظهر الله لطفه في حياة إبراهيم، نؤمن كمسيحيين أن نعمة الله تجاه إبراهيم كانت أكثر بقليل من ظلّ الرحمة التي أظهرها الله في المسيح. وبالطبع، كان المسيح بدون خطية ولذلك لم يحصل على النعمة الخلاصية، لكن مع ذلك كان مجيء المسيح كنسل إبراهيم عملاً عظيماً أظهر رحمة الله للعالم كله.
أظهرَ اللهُ رحمةً عظيمةً في المجيءِ الأولِ للمسيح، أي عندَ تأسيسَ الملكوت. حيثُ كانَ كلٌ من حياتهِ، موتهِ، قيامتهِ، صعودهِ، وحلولِ الروح القدس إظهارتً رائعةً لنعمةِ الله. ويعطي اللهُ رحمةً أكثرَ بينما يملكُ المسيحُ الآن في السماءِ، خلالَ استمرارِ ملكوتِهِ. وعندما انتشرَ الخلاصُ في جميعِ أرجاءِ العالمِ، أظهرَ اللهُ اللطفَ المُعلَنَ في المسيح في تغييرِ العالمِ الذي لا يمكنُ إنكارَهُ على مرِّ التاريخ. وعندما يعودُ المسيحُ ثانيةً، سيجلبُ اكتمالُ الملكوت النهائي رحمةً لا حدَ لها. سيعودُ المسيحُ ثانيةً ويَجلب معه سماواتً جديدةً وأرضً جديدةً. وكأتباعِ المسيح، ينبغي أن تتوجهُ قلوبَنا وعقولَنا، في كلِّ مرةٍ نرى فيها الله يُظهرُ اللطفَ في قصصِ إبراهيم، إلى الرحمةِ التي أعلنها اللهُ في هذه المراحل الثلاثة لملكوتِهِ في المسيح.

ولاء إبراهيم

ثانياً، إن الموضوع الآخر الهام في عرض موسى لحياة إبراهيم هو ولاء إبراهيم لله. في البداية، طلب الله من إبراهيم أن ينجز مسؤولية الهجرة إلى أرض الموعد. لكن الله طلب أموراً أخرى كثيرة من إبراهيم خلال حياته. فعندما نقرأ، كمسيحيين، عن المسؤوليات التي واجهها إبراهيم، يجب أن تتوجه قلوبنا وعقولنا نحو المسيح، نسل إبراهيم، ونحو ولائه لأبيه السماوي.
وبالطبع، كان المسيح مُخْلصاً للآب في جميع المراحل الثلاث لملكوته. ففي تأسيس الملكوت، برهن المسيح أنه كان مُخْلصاً لمتطلبات الولاء لله بكل ما في الكلمة من معنى. وعلى الرغم من أن إبراهيم كان مخلصاً لله في نواحٍ هامةٍ جداً، كان المسيح مخلصاً بشكل كامل في كل لحظة من حياته. والأكثر من هذا، لا يزال المسيح، كملك على الجميع أثناء استمرار الملكوت، صادقاً ومُخْلصاً لأبيه السماوي. إنه يملك فوق الجميع ويحقق مقاصد الله بطريقة كاملة ناشراً الإنجيل والفداء شعبه.
وأخيراً، عندما يعود المسيح ثانية عند اكتمال الملكوت، سوف ينهي أعمال البّر التي بدأها في حياته على الأرض. وسيدمر كل أعداء الله ويجعل كل شيء جديداً لمجد أبيه. وهكذا، في كل مرة نرى فيها موضوع ولاء إبراهيم لله، نعلم أنه يمكننا كمسيحيين أن نطبق هذه القضايا بشكل صحيح على عالمنا العصري، فقط عندما نربطها بطريقة صحيحة بالمسيح، نسل إبراهيم.

بركات إبراهيم

وثالثاً، نحن لا نهتم، كمسيحيين، برؤية كيف تنطبق هذه المواضيع عن النعمة الإلهية والولاء الإنساني على حياتنا في المسيح فحسب، لكننا مهتمون أيضاً بالموضوع الرئيسي الثالث في حياة إبراهيم: بركات الله لإبراهيم. قال الله لإبراهيم أن إسرائيل ستصبح أمة عظيمة، وأن الازدهار سيَعمّ الأمة في أرض الموعد، وأنه سيكون لإبراهيم وإسرائيل اسمٌ عظيمٌ وشهرةٌ عالميةٌ.
ينبغي أن تتوجه عقولنا، مرة أخرى، نحو البركات التي أعطاها الله للمسيح، نسل إبراهيم. فعند مجيئه الأول، قام المسيح من الأموات وحصل على كل سلطان في السماء وعلى الأرض؛ ولا يوجد اسم عظيم في السماء وعلى الأرض بعَظَمَةِ اسم يسوع. ولا يزال يسوع يتمتع بالبركات المتزايدة الآن خلال استمرار الملكوت. إنه يكتسب المزيد من المجد لنفسه بينما يحكم العالم وفقاً لإرادة الله. لكن عندما يجيء المسيح ثانية في المجد عند اكتمال الملكوت، سوف يتمتع بهذه البركات إلى أبعد الحدود. إنه سيسمو فوق الجميع، وستنحني كل ركبة له، أي للابن العظيم لإبراهيم. وهكذا عندما نرى البركات التي يحصل عليها إبراهيم من الله، تتوجّه عيوننا إلى المسيح الذي يرث وعود إبراهيم ويتمتع ببركات الله بدرجات أعظم.

بركات من خلال إبراهيم

وأخيراً، إن الموضوع الرئيسي الرابع في حياة إبراهيم هو البركات التي ستحل على الآخرين من خلال إبراهيم. فقد قال الله أنه من خلال عملية البركة واللعنة، سيتبارك كل الناس على الأرض من خلال إبراهيم. إن هذا الوعد العظيم هو مركز اهتمامٍ كبير في العهد الجديد. اصغ إلى الطريقة التي أشار بها بولس إلى هذا الوعد لإبراهيم في رسالة رومية 4: 13. حيث يقول:

فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالنَّامُوسِ كَانَ الْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثاً لِلْعَالَمِ بَلْ بِبِرِّ الإِيمَانِ (رومية 4: 13).

لاحظ هنا أنه عندما وعد الله إبراهيم بأنه سيبارك جميع الأمم، فإنه وعد أن يتحقق هذا الأمر عندما يملك إبراهيم جميع الأمم وينشر ملكوت الله في كل العالم. كان ينبغي أن يكون إبراهيم ونسله ورثة العالم، وجميع الأمم تحت قيادتهم. وكما طُلب من آدم وحواء في البداية أن يُخضِعا الأرض بأكملها، وعد الله أن يرث إبراهيم ونسله الأرض بأكملها، وذلك بنشر بركات الله إلى جميع قبائل الأمم.
ينطبق هذا الموضوع الأخير لتوزيع بركات إبراهيم في كل أنحاء العالم على المسيح أيضاً لأنه نسل إبراهيم ووريث وعود إبراهيم. فعند تأسيس الملكوت، دعا المسيح الشعب الأمين من أمة إسرائيل. لكن عندما قام من بين الأموات وصعد إلى عرشه في السماء، فقد قام كملك على كل الأرض وطلب من البقية المخلصين أن ينشروا بركات إسرائيل إلى كل الأمم. وخلال استمرار الملكوت، كان انتشار مُلك المسيح على كل الأمم من خلال الإنجيل تحقيقاً للوعد الذي أُعطي لإبراهيم ليبارك كل الأمم. وعندما يعود المسيح ثانية عند اكتمال الملكوت، سينشر بركات الله إلى كل أمم الأرض. وكما نقرأ في سفر الرؤيا 22: 1-2:

وَأَرَانِي نَهْراً صَافِياً مِنْ مَاءِ حَيَاةٍ لاَمِعاً كَبَلُّورٍ خَارِجاً مِنْ عَرْشِ اللهِ وَالْخَرُوفِ. فِي وَسَطِ سُوقِهَا وَعَلَى النَّهْرِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ شَجَرَةُ حَيَاةٍ تَصْنَعُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ثَمَرَةً وَتُعْطِي كُلَّ شَهْرٍ ثَمَرَهَا. وَوَرَقُ الشَّجَرَةِ لِشِفَاءِ الأُمَمِ (رؤيا 22: 1–2).

وسيتم أخيراً تحقيق الوعد بأن يصبح إبراهيم بركة لكل الأمم في تأسيس، استمرار، واكتمال ملكوت المسيح.
إذاً، يُمكنُنَا تلخيصَ الأمرِ بهذه الطريقة. يجبُ أن يتضمَّنَ التطبيقُ المعاصر الصحيح لحياةِ إبراهيم على عالمِنِا على الأقلِ اعترافاً ضمنياً بدور المسيح كنسلِ إبراهيم. ولكونهِ نسلُ إبراهيم الخاص، يكمِّلُ المسيح أو يحققُ المواضيع التي واجهناها في حياةِ إبراهيم. إن النعمةَ الإلهيةِ أُظهِرت في المسيح؛ والولاءُ الكاملِ والصحيح وُجِدَ في المسيح؛ كما ينالُ المسيح جميعَ البركات التي وّعد بها الله إبراهيم؛ ونرى في المسيح انتشارَ بركاتُ إبراهيم الغنية إلى أقاصي الأرض. ومهما قلنا عن التطبيق المعاصر، مهمٌ أن نتذكر هذه الروابط بين إبراهيم والمسيح.

بعد أن رأينا كيف تُكوِّن العلاقة بين إبراهيم ويسوع رابطاً حيوياً بين قصص حياة إبراهيم وعالمنا اليوم، يجب أن ننتقل إلى الجانب الثاني من التطبيق العصري، الرابط بين إسرائيل والكنيسة.

إسرائيل والكنيسة

علينا أن نتذكرَ دائماً أنه عندما بدأ موسى بكتابةِ وصفهِ لحياةِ إبراهيم، كتبَ هذه الأمور ليشجعَ بني إسرائيل على تركِ مِصر وراءهم ودخولِ مرحلةِ امتلاكِ أرض الموعد. كان عليهم أن يجدوا الخلفيةَ التاريخية لهذه الرؤيا في حياةِ إبراهيم؛ وكان عليهم أن يحققوا هذه الرؤيا بإيجادِ أمثلةً في قصصِ حياةِ إبراهيم ليتبعوها أو يرفضوها؛ حتى أنه كان عليهم أن يروا إنذارات لخبراتهِم في حياةِ إبراهيم. ولهذا السبب، إن أردنا أن نرى كيف تنطبقُ قصصُ حياةِ إبراهيم على العالم المعاصر، علينا أن نأخذَ بعينِ الاعتبار ما يعلّمُهُ العهدُ الجديد عن الروابط بين شعبِ إسرائيل الذي تبعَ موسى والكنيسة المسيحية اليوم.
حتى نستكشف العلاقة بين إسرائيل والكنيسة، سنتطرق إلى موضوعين يوازيان مناقشتنا السابقة. أولاً، سوف نستكشف موضوع نسل إبراهيم بتفصيل أكثر كما ينطبق على أمة إسرائيل وعلى كنيسة المسيح. وثانياً، سوف نرى كيف يتم التعبير عن موضوع نسل إبراهيم في المواضيع الرئيسية الأربعة في قصص حياة إبراهيم. دعونا ننظر أولاً إلى إسرائيل والكنيسة كنسل إبراهيم.

نسل إبراهيم

حتى نرى الروابط بين إسرائيل والكنيسة كنسل لإبراهيم، سوف نتطرق بإيجاز إلى أربع قضايا، أولاً، سوف نرى الاتساع العددي لنسل إبراهيم. ثانياً، سوف نلاحظ الهوية العرقية لنسله. ثالثاً، سوف نركز على الشخصية الروحية لنسل إبراهيم. ورابعاً، سوف ننظر إلى الوضع التاريخي لنسل إبراهيم. تأمّل أولاً في الاتساع العددي لنسل إبراهيم.

الاتساع العددي

كما رأينا سابقاً، يوضح سفر التكوين بأن مصطلح “نسل إبراهيم” أشار في بعض الأحيان إلى شخص واحد خاص، وهو إسحاق، ويعتمد العهد الجديد على هذا ليقيّم الرابط بين إبراهيم والمسيح. لكن علينا أن نوسّع رؤيتنا الآن لنرى ميزةً أخرى لنظرة الكتاب المقدس عن نسل إبراهيم. لم يكن إسحاق الشخص الوحيد في قصص حياة إبراهيم، الذي دُعي نسل إبراهيم أو ذريته. ولم يحصل إسحاق على ميراث إبراهيم لنفسه فقط. لكنه كان القناة التي سيتمتعّ الكثيرون من خلالها بمركزهم كأنسال لإبراهيم. ولهذا تكلم موسى مراراً وتكراراً عن أمة إسرائيل على أنها نسل إبراهيم. وبنفس الطريقة، عندما نطبّق قصص إبراهيم على عالمنا العصري، علينا أن نتذكر أن الكنيسة المسيحية هي نسل إبراهيم، رغم أهمية تذكُر أن المسيح هو النسل الأسمى لإبراهيم في العهد الجديد. وقد كتب بولس عن ذلك في رسالة غلاطية 3: 29:

فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ (غلاطية 3: 29).

وكما يوضح بولس في هذه الآية، فإننا مرتبطون بإبراهيم لأننا انضممنا إلى المسيح. نحن نسل إبراهيم مثلما كانت أمة إسرائيل في العهد القديم. ولهذا السبب، لا تنطبق قصص حياة إبراهيم على المسيح فحسب، لكن على اتساع نطاق أولاد إبراهيم الكثيرين الذين يتم تحديدهم معه في الكنيسة أيضاً.

الهوية العرقية

بالإضافة إلى حقيقة كون إسرائيل نسل إبراهيم في العهد القديم، والكنيسة المسيحية نسله اليوم، علينا أن نورد بعض الملاحظات عن الهوية العرقية لنسل إبراهيم في كلا العهدين. وكما رأينا سابقاً، كُتبت قصص حياة إبراهيم في المقام الأول من أجل أمة إسرائيل التي تبعت موسى. وعلى الرغم من صحة أن الغالبية العظمى من القرّاء الأصليين هم من العرق اليهودي، أي أنسال إبراهيم الجسديين، لكن من الخطأ أن نفكر أن كل القرّاء الأصليين من اليهود فقط. حيث كانت الأعداد الضخمة من الناس الذين تبعوا موسى مزيجاً من اليهود والأمم الذين تمَّ دمجهم في إسرائيل. ونتيجة لذلك، يوضح الكتاب المقدس، وفي عدد من المناسبات، بأن القرّاء الأصليين في سفر التكوين لم يكونوا يهوداً حصراً.
اصغِ، على سبيل المثال، إلى الطريقة التي وُصِف بها أولئك الذين تبعوا موسى في خروج 12: 38:

وَصَعِدَ مَعَهُمْ لَفِيفٌ كَثِيرٌ أَيْضاً مَعَ غَنَمٍ وَبَقَرٍ مَوَاشٍ وَافِرَةٍ جِدّاً (خروج 12: 38).

لاحظ هنا أنه كان بين الإسرائيليين “لفيفٌ”. وكانت هذه المجموعة مؤلفة من الأمم الذين انضموا إلى إسرائيل وغادروا مصر معهم. تم ذِكر هذه المجموعة في عدة مناسبات في الكتاب المقدس. وبنفس الطريقة، تكشف أجزاء لاحقة من العهد القديم بأن أمميين معروفين مثل راحاب وراعوث قد غُرِسوا في إسرائيل في أجيال لاحقة، وتتضمن سلاسل النسب في أخبار الأيام الأول 1-9 أسماءً من الأمم بين شعب الله.
وهكذا، نرى أن نسل إبراهيم الذين كتب موسى لهم قصص حياة إبراهيم أصلاً كانوا مختلطين عرقياً. ويتضمن ذلك النسل، أنسال إبراهيم الجسديين والأمميين، الذين تم دمجهم في عائلة إسرائيل. وقد اطّلعت كلتا المجموعتين على مستقبلهما في أرض الموعد من خلال قصص حياة إبراهيم.
وبنفس الطريقة، تُعتَبَر الكنيسة المسيحية اليوم متنوعة عرقياً. إنها تتألف من (المسيحيين) اليهود الذين يؤمنون بالمسيح رباً لهم، و(المسيحيين) الأممين الذين تمَّ دمجهم في عائلة إبراهيم لأنهم يؤمنون أيضاً بالمسيح رباً. وحتى نتأكد، وكما كشف التاريخ، نمت كنيسة العهد الجديد وانضم إليها أمميون أكثر من اليهود، لكن التنوع العرقي لنسل إبراهيم ما يزال واقعاً اليوم كما كان في العهد القديم. وهكذا، وكما أُعطيت قصص حياة إبراهيم لليهود والأمميين الذين حُسبوا نسلاً لإبراهيم، علينا أن نكون مستعدين لتطبيق قصص حياة إبراهيم على اليهود والأمميين، الذين يُحسَبون نسلاً لإبراهيم اليوم لأنهم أعضاء في الكنيسة في جميع أنحاء العالم.
يُعتَبَرُ هذا جانباً هاماً جداً للتطبيق المعاصر لأن كثيراً من المسيحيين أقرّوا بالتعليم الزائف بأن الوعود التي أُعطيت لإبراهيم يجب أن تُطَّبقَ فقط على العرق اليهودي اليوم. وبحسب هذا الرأي، لدى الله برنامج منفصل للمؤمنين الأمميين. وبصرف النظر عن قليلٍ من المبادئ الروحية هنا وهناك، فالمؤمنين الأمميين ليسوا ورثةَ الوعود التي أُعطيت لإبراهيم. ومهما كانت هذه النظرة شائعة، علينا أن نتذكر دائماً أن نسل إبراهيم كان متنوعاً عرقياً في أيامِ موسى وما يزالُ اليوم نسل إبراهيم متنوعاً عرقياً. فما علّمه موسى للشعب الذي تبِعَه ينطبق على استمرارية ذلك الشعب اليوم، أي كنيسة يسوع المسيح.

الشخصية الروحية

ثالثاً، يجب أن يأخذ التطبيق العصري لحياة إبراهيم في الاعتبار أيضاً الشخصية الروحية لإسرائيل وللكنيسة كنسل إبراهيم. كما رأينا سابقاً، يحدد العهد القديم هوية أمة إسرائيل المرئية كنسل إبراهيم، أي نسل إبراهيم الجماعي، لكن علينا أن ندرك أنه كان هناك تنوع روحي ضمن أمة إسرائيل المرئية. حيث كان هناك مؤمنين حقيقيين وغير مؤمنين. ويوضّح سجل العهد القديم أن العديد من الرجال، النساء، والأطفال في أمة إسرائيل كانوا غير مؤمنين، لكن كان مؤمنين حقيقيين آخرون، آمنوا بوعود الله. وحتى نتأكد، حصل كل فرد في إسرائيل، المؤمنين وغير المؤمنين، على العديد من البركات الخاصة المؤقتة من الله. فقد تم إنقاذهم جميعاً من العبودية في مصر؛ دخلوا في علاقة عهدية مع الله على جبل سيناء؛ وكان لدى الجميع فرص للإيمان؛ وعُرِضَ عليهم الدخول إلى أرض الموعد. لكن كان هناك فروقات هامة أيضاً. فمن ناحية، أظهر غير المؤمنين داخل إسرائيل طبيعة قلوبهم الحقيقية عن طريق الكُفر. وقد صُممِت قصص إبراهيم هنا لتدعوهم إلى التوبة الحقيقية والإيمان الخلاصي.
ومن الناحية الأخرى، آمن المؤمنون الحقيقيون داخل إسرائيل بوعود الله، وأظهروا طبيعة قلوبهم الحقيقية عن طريق أمانتهم. وقد صُمِمت قصص إبراهيم هنا لتشجيع هؤلاء المؤمنين الحقيقيين على النمو في إيمانهم. وبسبب كُفرهم، حصل غير المؤمنين داخل إسرائيل على البركات المؤقتة فقط. لكنهم سيحصلون على دينونة الله النهائية والأبدية في الحياة الأبدية. لكن المؤمنين الحقيقيين هم نسل إبراهيم الحقيقي، أنساله الروحيين، الأولاد الذين لم يحصلوا على البركات المؤقتة الكثيرة فحسب، لكنهم سيحصلون أيضاً على البركات الأبدية لميراث إبراهيم في السماوات الجديدة والأرض الجديدة يوماً ما. وقد ناقش بولس وجهة النظر هذه بقوة في رومية 9: 6-8. اصغِ إلى ما قاله هناك:

لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ. وَلاَ لأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ جَمِيعًا أَوْلاَدٌ. بَلْ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً (رومية 9: 6–8).

في الواقع، ليس من الصعب أن نرى أن التنوّع الروحي ذاته موجود في كنيسة المسيح. حيث يتألف أولئك الذين يرتبطون بالكنيسة المرئية في العهد الجديد عن طريق المعمودية من نوعين من الناس: غير المؤمنين والمؤمنين. وبالطبع، وكما تمتع كل بني إسرائيل في العهد القديم بامتيازات مؤقتة كثيرة بسبب ارتباطهم بالله وشعبه، هناك بركات موقتة كثيرة لكل المنضمين إلى كنيسة المسيح. فإن لديهم مجتمع محب؛ كلمة الله والأسرار الكنسية؛ والإنجيل مشروحاً ومُقدَّماً لهم. لكن يُظهِر الكثير من الناس داخل الكنيسة المرئية طبيعة قلوبهم الحقيقية عن طريق كُفرهم. ولذا ينبغي تطبيق قصص حياة إبراهيم على غير مؤمنين في الكنيسة بدعوتهم للتوبة الحقيقية والإيمان الخلاصي.
لكن يوجد داخل الكنيسة المرئية أيضاً المؤمنون الحقيقيون الذين يؤمنون بوعود الله ويُظهِرون طبيعة قلوبهم الحقيقية عن طريق أمانتهم. وينبغي تطبيق قصص حياة إبراهيم على أولئك المؤمنين الحقيقيين بتشجيعهم على النمو في إيمانهم طوال حياتهم. وبسبب كُفرِهم، سيحصل غير المؤمنين في الكنيسة على بركات موقتة فقط. كما وسيحصلون على دينونة الله الأبدية في الحياة الأبدية. لكن نسل إبراهيم الحقيقي، أي أولاد إبراهيم الحقيقيين، أولئك الذين آمنوا بالمسيح لن يحصلوا على البركات الموقتة الكثيرة فحسب، لكنهم سيحصلوا أيضاً على المكافأة الأبدية يوماً ما، أي ميراث إبراهيم في السماوات الجديدة والأرض الجديدة.
ولهذا السبب كتب يعقوب عن إبراهيم في رسالة يعقوب 2: 21-22، متحدثاً إلى الكنيسة المسيحية المرئية، أي المؤمنين الحقيقيين وغير المؤمنين:

أَلَمْ يَتَبَرَّرْ إِبْرَاهِيمُ أَبُونَا بِالأَعْمَالِ إِذْ قَدَّمَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ. فَتَرَى أَنَّ الإِيمَانَ عَمِلَ مَعَ أَعْمَالِهِ وَبِالأَعْمَالِ أُكْمِلَ الإِيمَانُ (يعقوب 2: 21–22).

إن فكرة يعقوب الرئيسية هنا هي أن تتحدى قصص حياة إبراهيم غير المؤمنين في الكنيسة للابتعاد عن ريائهم، وأن تشجع المؤمنين الحقيقيين في الكنيسة على الاستمرار في التعبير عن إيمانهم من خلال حياة الإيمان. وعلينا أن نتبع مثال يعقوب بتمييز التنوع الروحي للكنيسة اليوم عندما نصنع تطبيقات عصرية لقصص حياة إبراهيم.

الوضع التاريخي

ورابعاً، حتى نطبق حياة إبراهيم على العالم العصري، علينا أن نتذكر أن هناك تشابهاً كبيراً بين الأوضاع التاريخية للإسرائيليين الذين كانوا يتبعون موسى والكنيسة المسيحية اليوم. ستذكرون أن موسى كتب عن حياة إبراهيم للإسرائيليين الذين كانوا في رحلة. وسواء كتب للجيل الأول أو الثاني بعد الخروج، فقد سافر قراؤه الأصليين بين عالمين. فمن ناحية، تركوا العبودية في مصر. لكن من الناحية الأخرى، لم يدخلوا أرض الموعد في كنعان بعد. أو يمكن التعبير عنها بطريقة أخرى، حصلت أمة إسرائيل على خلاصها الأولي من عالمها القديم، لكنها لم تكن قد دخلت إلى عالمها الجديد بعد. ونتيجة لذلك، كتب موسى ليشجع بني إسرائيل على قطع جميع ارتباطاتهم بمصر وعلى التحرك قُدُماً نحو النصر في الأرض.
إن الوضع التاريخي للقراء الأصليين هام للتطبيق العصري، لأن الكنيسة المسيحية اليوم في وضع تاريخي موازي. وكما تم إنقاذ بني إسرائيل من العبودية في مصر، مع أنهم كانوا متجهين نحو الحياة المجيدة في أرض الموعد، تم إنقاذ كنيسة المسيح من سيادة الخطية من خلال العمل الذي قام به المسيح عندما كان على الأرض، لكن لا تزال الكنيسة متجهة نحو مجد الخليقة الجديدة الذي سيأتي عندما يعود المسيح ثانية. وتزودنا هذه الأوضاع المتوازية بإطار مرجعي لتطبيق حياة إبراهيم على الكنيسة اليوم. وكما كتب موسى عن إبراهيم ليشجع ويرشد بني إسرائيل في رحلتهم من مكان إلى آخر، تشجعنا قصصه وترشدنا في رحلتنا من عالم الموت إلى عالم الحياة الأبدية الجديد.
ويمكننا التأكد من أن هذه الأوضاع التاريخية المتوازية تزودنا بهذا النوع من التوجه نحو التطبيق، لأن الرسول بولس استعان بها عندما طبق العهد القديم على الكنيسة في كورنثوس. اصغِ إلى الطريقة التي أشار فيها إلى الأوضاع التاريخية المتوازية بين قراء موسى والكنيسة، في رسالة 1 كورنثوس 10: 1-6:

فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا أَنَّ آبَاءَنَا جَمِيعَهُمْ كَانُوا تَحْتَ السَّحَابَةِ وَجَمِيعَهُمُ اجْتَازُوا فِي الْبَحْرِ وَجَمِيعَهُمُ اعْتَمَدُوا لِمُوسَى فِي السَّحَابَةِ وَفِي الْبَحْرِ وَجَمِيعَهُمْ أَكَلُوا طَعَاماً وَاحِداً رُوحِيّاً. وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَاباً وَاحِداً رُوحِيّاً لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ. لكِنْ بِأَكْثَرِهِمْ لَمْ يُسَرَّ اللهُ لأَنَّهُمْ طُرِحُوا فِي الْقَفْرِ. وَهذِهِ الأُمُورُ حَدَثَتْ مِثَالاً لَنَا حَتَّى لاَ نَكُونَ نَحْنُ مُشْتَهِينَ شُرُوراً كَمَا اشْتَهَى أُولئِكَ (1 كورنثوس 10: 1–6).

ببساطة، أشار بولس إلى أن الإسرائيليين الذين تبعوا موسى في البرية، اختبروا أموراً موازية لخبرات المسيحيين. فقد تم إنقاذهم من قبل موسى كما تم إنقاذ المسيحيين بواسطة المسيح. واعتمدوا في موسى كما اعتمد المسيحيون في المسيح. أكلوا المنّ وشربوا الماء من الله كما يأكل المسيحيون ويشربون في سرّ العشاء الرباني. ومع ذلك، وضعت خبرات النعمة الأولية هذه إسرائيل في مرحلة اختبار، أي مرحلة امتحان بينما كانوا يتقدمون نحو أرض الموعد. ومن المحزن، أن الله لم يُسرّ بغالبية الإسرائيليين في أيام موسى، فماتوا في البرية. وهكذا استنتج بولس أن على المسيحيين أن يتعلموا من خبرة الإسرائيليين، أي طبيعة رحلتهم ككنيسة. ويمكننا أن نتعلم من مثال بولس، الكثير عن كيفية تطبيق حياة إبراهيم على الكنيسة المسيحية.
شجعت قصص موسى عن حياة إبراهيم بني إسرائيل على البقاء مخلصين بينما كانوا ينظرون إلى ما صنعه الله عند إنقاذهم من مصر، وبينما كانوا يتقدمون باتجاه أرض الموعد. وبنفس الطريقة، علينا أن نطبق قصص حياة إبراهيم على الكنيسة اليوم بطرق تشجعنا أثناء رحلتنا. علينا أن نبقى مخلصين للمسيح من أجل ما فعله عند تأسيس الملكوت. كما علينا أن نستمر في إخلاصنا له بينما ينمو ملكوته في أيامنا، وعلينا أن نتوق إلى اليوم الذي تنتهي فيه رحلتنا الروحية، عندما ندخل إلى السماوات الجديدة والأرض الجديدة.
وهكذا نرى أنه بينما نسعى باتجاه التطبيق المعاصر لحياة إبراهيم، علينا ألا نهتم بالروابط الموجودة بين إبراهيم والمسيح فحسب، بل علينا أن نولي اهتمامنا أيضاً للروابط الموجودة بين شعب إسرائيل الذي كان أول من سمعَ قصصَ حياةِ إبراهيم وبين الكنيسة المسيحية. فإسرائيلُ العهدِ القديم وكنيسةُ العهدِ الجديد هم نسلٌ لإبراهيم؛ ولدى كلانا هوية عرقية مختلطة؛ وكلانا متنوعان روحياً، وفي رحلةٍ نحو هدف ملكوت الله المجيد.

المواضيع الرئيسية

بعد أن رأينا كيف تنطبق قصص حياة إبراهيم على الكنيسة المسيحية، باعتبارها استمراراً لنسل إبراهيم في العالم اليوم، علينا أن نرى كيف تتلامس عملية التطبيق هذه مع المواضيع الرئيسية الأربعة للإصحاحات التي تتحدث عن حياة إبراهيم. ماذا تقول هذه الأفكار الرئيسية عن حياتنا اليومية في المسيح؟

كما تذكرون، تتلامس قصص حياة إبراهيم مع أربع قضايا رئيسية: النعمة الإلهية تجاه إبراهيم، ولاء إبراهيم لله، بركات الله لإبراهيم، وبركات الله من خلال إبراهيم. سوف نشير مراراً وتكراراً، في الدروس اللاحقة، إلى كيفية تأثر هذه المواضيع على حياتنا كنسل لإبراهيم. وسوف نقدم بإيجاز، عند هذه النقطة، بعض التوجهات العامة التي ينبغي أن نتبع. فكر أولاً بموضوع النعمة الإلهية.

النعمة الإلهية

لم يظهر الله رحمته لإبراهيم في بداية حياته فحسب، لكن في كل يوم من أيام وجوده على الأرض. ويعلّم الكتاب المقدس بوضوح، أنه كما أظهر الله الرحمة لإبراهيم، يظهر الله للمسيحيين اليوم النعمة التي تدخلنا وتقوينا في المسيح. وقد كتب بولس عنها في أفسس 2: 8-9:

لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ بِالإِيمَانِ وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ (أفسس 2: 8–9).

إن الخلاص بالمسيح هو عطية الله بنعمته؛ حتى إيماننا هو من عنده. إننا نعتمد كثيراً على رحمة الله لدرجةِ أنه علينا أن نستمر في العيش في تلك الرحمة في كل يوم من حياتنا المسيحية. وبدون نعمة الله المقوّية، تذهب جميع جهودنا في البقاء مخلصين سدىً.
لهذا السبب، وكما كان على الإسرائيليين الذين تبعوا موسى أن يتعلموا روعة نعمة الله في حياتهم، بينما كانوا يسمعون قصص حياة إبراهيم، علينا كأتباع المسيح، أفراداً ومجتمعين، أن ننتهز الفرص لنتعلم كيف نكون شاكرين لما فعله الله لأجلنا، في كل مرة نقرأ فيها عن إظهار الله لرحمته لإبراهيم. لقد أظهر لنا الله رحمة كثيرة وعلينا أن نتعلم كيف نطلب رحمته ونعتمد عليها.

ولاء إبراهيم

وبنفس الطريقة، ينطبق موضوع ولاء إبراهيم على اتباع المسيح في عدة مستويات. فعندما نقرأ عن حياة إبراهيم، نجد العديد من الحالات التي طُلِب فيها من إبراهيم أن يخدم بطاعةٍ. وبالطبع، لم يصل إبراهيم إلى مرحلة الكمال في هذه الحياة، لكنه أظهر ثمر الإيمان الحقيقي. ومهمٌ أن نتذكر أنه حتى في العهد القديم، كانت الطاعة المخلصة تعتمد دائماً على رحمة الله ونعمته. ولهذا، يجب ألاّ نسيء فهم هذا التركيز على أنه نوع من الناموسية. ومع ذلك، وكما هو الحال في العهد القديم، فإننا نتوقَّع من المؤمنين الحقيقيين اليوم أن يتجاوبوا مع نعمة الله ويخدموه بإخلاص.
ولهذا السبب، غالباً ما يشدد العهد الجديد على مسؤولية ولاء أتباع المسيح. اصغِ إلى كيف ربط بولس النعمة والولاء في أفسس 2: 8-10:

لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ بِالإِيمَانِ وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا (أفسس 2: 8-10).

وكما توضّح لنا الآية 10، لدى المسيحيين اليوم مسؤولية القيام بأعمال صالحة. حيث يعطينا الله الإيمان الخلاصي حتى نكون مخلصين له. وهكذا، في كل مرة نرى فيها كيف تثير حياة إبراهيم قضايا مرتبطة بالولاء البشري، نكون في وضع ينبغي أن نطبق فيه هذه المسؤوليات الأخلاقية على حياتنا.

بركات لإبراهيم

ثالثاً، علينا أن نكون مدركين للطرق التي تنطبق فيها البركات المُعطاة لإبراهيم على الحياة المسيحية. ستذكر أن الله وعد إبراهيم ونسله ببركات عظيمة. حيث أنهم سيصبحون في نهاية المطاف أمة عظيمة، مزدهرة، وذات سمعة عظيمة. ونجد في قصص حياة إبراهيم أوقاتاً بارك فيها الله إبراهيم بعيّنات من هذه البركات النهائية.
وكما كان باستطاعة القراء الإسرائيليين الأصليين رؤية وعود الله لإبراهيم تتحقق في حياتهم بينما كانوا ينتظرون بركاتهم النهائية، فإننا نختبر اليوم كمسيحيين عيّنات من البركات نفسها في الوقت الحاضر بينما ننتظر برجاء اليوم الذي ستحل فيه كل هذه البركات علينا. إن البركات التي نراها في هذه الحياة يمكن أن تعطينا تشجيعاً كبيراً، بينما نعيش حياتنا اليومية على رجاء البركات النهائية التي ستكون لنا عندما يعود المسيح ثانية.

بركات من خلال إبراهيم

أخيراً، مثلما تركّز قصص حياة إبراهيم على البركات التي سيعطيها الله للعالم من خلال إبراهيم، فإن لدى المسيحيين أيضاً الفرصة ليتأملوا في البركات التي تأتي إلى العالم من خلالنا. ستذكرون أن أحد الوعود التي حصل عليها إبراهيم هو الحماية من الأعداء والبركات لأصدقائه، حتى يشارك بركات الله مع جميع أمم الأرض يوماً ما. وأكثر من هذا، نرى أن الله استخدم إبراهيم في قصص حياته من وقت إلى آخر كأداة لبركاته لكل أنواع الناس.
عندما تعلّم القراء الأصليين لسفر التكوين عن هذه الأحداث، كانت لديهم العديد من الفرص ليتأملوا في الأحداث التي جرت في يومهم. فقد وجدوا الإرشاد للطرق التي كانوا سيَخدموا من خلالها كأدوات الله لمباركة العالم، عندما كانوا يواجهون جماعات مختلفة من الناس. وكانوا متأكدين من حماية الله لهم ضد الأعداء وكان باستطاعتهم الانطلاق بجهودهم إلى الأمام، لنشر بركات ملكوت الله بين جيرانهم.
وبنفس الطريقة، علينا كمسيحيين أن نطبّق هذه الفكرة الرئيسية على حياتنا اليوم. ويمكننا أن نكون متأكدين أيضاً من حماية الله لنا، ويمكننا إيجاد الشجاعة لنكون بركة لجميع أمم الأرض، وذلك بنشر ملكوت الله إلى أقاصي الأرض.

الخاتمة

لقد قمنا في هذا الدرس عن التطبيق العصري لحياة إبراهيم، باستكشاف كيفية اتصال إصحاحات سفر التكوين المكرَّسة لرئيس الآباء بعالمنا اليوم. فقد أشرنا إلى أن المقاربة المسيحية لهذا الجزء من الكتاب المقدس تجذب الانتباه إلى المسيح كالنسل العظيم لإبراهيم. كما أنها تبحث عن طرقٍ يحقق فيها يسوع الأفكار الرئيسية التي نكتشفها في حياة إبراهيم. لكن فوق هذا، رأينا أيضاً كيف تنطبق حياة إبراهيم على الكنيسة، أي النسل الجماعي لإبراهيم، كيف ينبغي أن يعيش الرجال، النساء، والأطفال بحسب تعاليم هذا الجزء من الكتاب المقدس.
عندما ننظر بشكلٍ دقيق لحياة إبراهيم في سفر التكوين، سيكون لنا العديد من الفرص لتطبيقِ حياة رئيس الآباء على حياتِنا اليوم. وسنجدُ أن وصفَ موسى لأبينا إبراهيم لا يوجّه قلوبنا نحو رئيس الآباء فحسب، لكن أيضاً نحو المسيح نسلُ إبراهيم، ونحو روعةَ الحقيقة أنه في المسيح نحن أيضاً نسلُ إبراهيم وورثةٌ للوعودِ التي أُعطيت لإبراهيم.

والآن، ها هي فرصتك للحديث معنا عما تفكّر فيه
يا صديق، نحن نريد أن نساعدك في رحلة الإيمان. الخطوة التالية هي أن ترسل لنا برغبتك في المعرفة والإيمان لنتواصل معك، فنشجعك ونصلي من أجلك. نحن نتعامل بحرص وسرية مع كل رسائل الأصدقاء