أبونا إبراهيم

الدرس الثاني

حياة إبراهيم: المعنى الأصلي

المقدمة
 
يُحبّ أتباع المسيح المخلصين الأسفار المقدسة. فنجد أن هذه الأسفار تخاطب حياتنا بعدة طرق مختلفة وشخصية جداً. وهذه الحقيقة عن الكتاب المقدس ثمينةٌ وينبغي على المسيحيين ألا ينسوها أبداً. ولكن كثيراً ما يجعلنا هذا البعد الشخصي الرائع للكتاب المقدس ننسى شيئاً ينبغي أن نتذكره دائماً: لم يُكتَب الكتاب المقدس مباشرةً لك أو لي، إنما كُتب أولاً لأشخاصٍ آخرين عاشوا منذ آلاف السنين. وهكذا، عندما نحاول فهم كيفية تطبيق الأسفار المقدسة على حياتنا اليوم، علينا أن نحذر دائماً حتى نبني تطبيقاتنا المُعاصِرة على المعنى الأصليّ للكتاب المقدس.
لقد أعطينا هذه السلسلة من الدروس عنوان أبونا إبراهيم. وسنتكشف في هذه الدروس قصة حياة إبراهيم كما وردت في سفر التكوين 11: 10-25: 18.
هذا هو الدرس الثاني من الدروس التمهيدية الثلاثة، وقد أعطيناه عنوان “حياة إبراهيم: المعنى الأصلي”. سوف نرى في هذا الدرس مدى أهمية قراءة قصة حياة إبراهيم في ضوء الوقت الذي كُتبت فيه ولمن كُتبت. وسوف نستكشف الأثر الأصلي الذي كان مقصوداً أن يكون لهذه القصص على أمة إسرائيل عندما تبعوا موسى إلى أرض الموعد.
سوف نستكشف المعنى الأصلي لتكوين 11: 10-25: 18، وذلك بفحص قضيتين رئيسيتين. أولاً، سوف نبيّن كيف استخرج موسى الروابط بين تاريخ حياة إبراهيم وبين خبرات قرائه الأصليين. وثانياً، سوف نلخص بعض المضامين لهذه الروابط بالنسبة للقراء الأصليين.
قبل أن ننظر إلى المعنى الأصلي لحياة إبراهيم، ينبغي أن نأخذ لحظة لاستعراض ما رأينا في الدرس السابق. لقد ركزنا حتى هذه النقطة على قضيتين هامتين. أولاً، لقد اقترحنا أن تكوين 12: 1– 3 يُظهر أربعة مواضيع رئيسية في قصة إبراهيم: النعمة الإلهية تجاه إبراهيم (أي الطرق العديدة التي أظهر الله فيها رحمةً لرئيس الآباء)، ولاء إبراهيم لله (أي الطرق العديدة التي توقّع فيها الله من إبراهيم أن يُظهر طاعته)، بركات الله لإبراهيم (أي الوعود بالأمة العظيمة، الذرية الكثيرة، الأرض، والاسم العظيم)، وبركات الله من خلال إبراهيم (أي الوعد بأن يكون إبراهيم بركة لكل شعوب الأرض).
وفوق هذا، رأينا أن هذه المواضيع الرئيسية شكّلت الأسلوب الذي سُردت فيه قصة إبراهيم في سفر التكوين. وقد تعلمنا أن هذه القصة تنقسم إلى خمس خطوات متناظرة. أولاً سوف نبدأ بخلفية إبراهيم وخبراته السابقة في 11: 10-12: 9. ثانياً، يركّز العديد من الحلقات على اتصالات إبراهيم السابقة مع الآخرين في 12: 10-14: 24. ويُركّز الجزء الثالث والرئيسي من حياة إبراهيم على العهد الذي أقامه الله مع إبراهيم في 15: 1-17: 27. بينما يتجه الجزء الرابع من حياة إبراهيم إلى اتصالات إبراهيم اللاحقة مع الآخرين في 18: 1-21: 34. ويتعامل الجزء الخامس مع ذرية إبراهيم ووفاته في 22: 1-25: 18.
تقدّم هذه الخطوات الخمس حياة رئيس الآباء بشكل متناظر. حيث يخدم الجزء الثالث من 15: 1-17: 27، والذي يتناول عهد الله مع إبراهيم، كالجزء الرئيسي من حياة إبراهيم. ويتطابق الجزءان الثاني والرابع لأنهما يركزان على اتصالات إبراهيم مع الآخرين. كما ويتطابق الجزءان الأول والأخير لأنهما يتناولان الخاتمات لحياة إبراهيم، متتبعين سلسلة نسب عائلته من الماضي إلى المستقبل.
سيستخدم هذا الدرس، في كثير من النواحي، هذه الرؤى كقاعدة في بنية ومحتوى حياة إبراهيم. وبعد أن قدمنا هذه المراجعة، أصبحنا على استعداد للانتقال إلى المواضيع الرئيسية في هذا الدرس، أي المعنى الأصلي لحياة إبراهيم كما ورد في سفر التكوين. دعونا نبدأ أولاً باستكشاف الروابط الموجودة بين القصص التي تدور حول إبراهيم وبين خبرات بني إسرائيل الذين كانوا أول من سمع هذه القصص.
 
الروابط
 
نعتمد في تفسيِرِنا لسيرة حياة إبراهيم في هذه السلسلة من الدروس، على الافتراض بأن هذه القصص كُتبت في الأصل في أيام موسى، وأن جوهرها الآن هو نفسُه كما كان في ذلك الحين. يعتقد معظم علماء النقد أن هذه القصص لم تُكتب في أيام موسى، لكن أكّدت أجزاء أخرى من العهد القديم بالإضافة إلى المسيح نفسَه أن موسى كَتَبَ سفر التكوين، ولهذا السبب، كان على المسيحيين المعاصرين أن يؤكدوا بدورِهِم أن موسى هو كاتب السفر. ولكننا نهتمُ في هذه السلسلة أيضاً بتحقيقِ خطوةً أبعد. فنحن لا نريد إدراك حقيقة أن موسى كتب هذه القصص فحسب – لكننا نريد أن نعرف لماذا كتبها. ماذا كانت وجهة نظرِهِ عن حياةِ إبراهيم؟ وماذا كان هدفَه من الكتابة؟ إحدى أفضل السبل للبدء في استكشاف المعنى الأصلي لحياة إبراهيم هي البحث عن الطرق التي ربط موسى من خلالِها بين قصصه عن إبراهيم وبين خبراتِ قرائِه الأصليين، أي بني إسرائيل الذين تبِعوُه من مِصر باتجاهِ أرض الموعد.
وحتى نستكشف كيف ربط موسى بين قصصه عن إبراهيم وبين قرائه الأصليين، سنتناول ثلاث مسائل: أولاً، سنقوم باستكشاف ما نعنيه عندما نتحدث عن هذه الروابط. ثانياً، سوف نفحص بعض أنواع الروابط التي تظهر في قصص حياة إبراهيم. وثالثاً، سنقوم بتلخيص الروابط الموجودة في هذه القصص، وذلك بالنظر إلى كل خطوة من الخطوات الخمس الرئيسية في بنية قصة حياة إبراهيم. دعونا نبدأ أولاً بما نعنيه عندما نتحدث عن الروابط.
 
التعريف
 
عندما ركّب موسى تاريخه عن حياة إبراهيم، وجد نفسه في وضعٍ مماثلٍ للوضع الذي وجد جميع كتبة الروايات الكتابية أنفسهم فيه. كما أنه وجد نفسه واقفاً بين عالمين. فمن جهة أولى، حصل موسى على روايات ما سندعوه “ذلك العالم”، أي عالم إبراهيم. وكان موسى على اطلاع بما حدث في زمن إبراهيم قبل حوالي 500 إلى 600 سنة، وذلك بواسطة كلٍّ من التقليد والوحي الإلهي العجيب. وبهذا المعنى، تعامل موسى في المقام الأول مع العالم القديم من حياة إبراهيم.
ولكن من جهة أخرى، تعامل موسى مع العالم الذي كان يعيش فيه، وهو ما يمكن أن ندعوه “عالمهم”، أي عالم موسى والإسرائيليين الذين تبعوه. وكقائد لشعب الله في ذلك الوقت، كتب موسى قصصه عن العالم القديم من حياة إبراهيم، من أجل تلبية احتياجات عالمهم.
وعندما توسّط موسى بين “ذلك العالم” من حياة إبراهيم و”عالمهم” (أي عالم موسى المعاصر)، قام باستخراج روابط تجمع بين حياة رئيس الآباء وحياة قرّائه، حتى يتمكنوا من رؤية علاقة القصص التي كتبها بهم. هذا يعني أن موسى اختار وصَاغ قصصه بطرقٍ مكّنت الإسرائيليين الذين كانوا يتبعونه من رؤية الروابط بين حياة إبراهيم وحياتهم. وقد فعل موسى هذا على الأغلب عن طريق الكتابة، بحيث يتمكن قراؤه من استخراج أوجه المقارنة والتباين بين خبرات إبراهيم وخبراتهم الشخصية المعاصرة. وقد كانت أوجه المقارنة والتباين طفيفة في بعض الأحيان، وأكثر اتساعاً في أحيان أخرى، ولكن في كل حلقة، لفت موسى النظر إلى هذه الأنواع من الروابط بين حياة إبراهيم وحياة قراء موسى الأصليين.
وبعد أن اطلعنا على الفكرة الأساسية للروابط والمعنى الأصلي، دعونا ننتقل إلى اهتمامنا الثاني، وهو أنواع الروابط التي أقامها موسى بين حياة إبراهيم وخبرات قرائه الاسرئيليين الأصليين.
 
الأنواع
 
لكي يكون لأية قصة صلةً بقرّائِها، ينبغي أن تُصوِّر عالَماً يمكن لقرّائِها أن يفهموه. فإن كان عالمُ قصةٍ ما مختلفٌ تماماً عن العالم الحقيقيّ، وإن لم يتمكّن القرّاء من إيجادِ الصلةَ بينهم وبين شخصيات القصة وموضوعاتَها، فإن القصةَ لن تنقل الصورة للقرّاء. أو يمكن صياغة الأمر بحسب عبارات هذا الدرس كالتالي، لو كان “ذلك العالم” من حياة إبراهيم مختلفٌ تماماً “عن عالمهم” أي عالم موسى وبني إسرائيل، فلن يكون للروايات عن إبراهيم أي معنى أو صلةً ببني إسرائيل. وهكذا، بذل موسى جُهداً كبيراً لاستخراج الروابط بين عالم إبراهيم وعالم بني إسرائيل الذين كانوا يتجهون نحو أرض الموعد. والسؤال المطروح أمامنا في هذا الدرس هو كيف جعل موسى هذه الروابط واضحة. كيف شكّل رواياته عن إبراهيم بحيث تكون مرتبطة بعالم قرّائهِ؟
وبينما نمضي قُدُماً في هذه السلسلة، سوف نرى أن موسى ربط بين وصفه وخبرات الإسرائيليين في ثلاث طرقٍ رئيسية. أولاً، كتب قصصه بحيث أخبرت الإسرائيليين عن الخلفيات التاريخية للأمور التي اختبروها. ثانياً، كتب بحيث زوّدت رواياته الإسرائيليين بالأمثلة والنماذج ليقتدوا بها أو يتجنبوها. وثالثاً، كتب لكي يبيّن أن العديد من خبرات رئيس الآباء أنذرت أو لمّحت إلى خبرات الإسرائيليين. ولأننا سنشير إلى هذه الأنواع من الروابط مراتٍ عديدة في الدروس القادمة، علينا أن نقدّم التقنيات الثلاث التي استخدمها موسى ليظهر صلة حياة إبراهيم بقرائه الأصليين. دعونا ننظر أولاً كيف زوّدت حياة إبراهيم بخلفيات بالنسبة لخبرات بني إسرائيل في زمن موسى. وفي كثير من النواحي، تُعتَبَر هذه من أسهل الروابط للتمييز.
 
 
الخلفيات
 
من الشائع جداً أن يقوم أناسٌ من شرائح مختلفة من المجتمع بسرد قصصٍ لبعضهم البعض لغرضٍ رئيسي وهو شرحُ الخلفيات التاريخيّة للأمور التي يختبروها. وغالباً ما يقوم الأهلُ بهذا مع أولادِهم، ويوضّح المعلمون تعاليمَهم بهذه الطريقة، كما ويفعل رعاة الكنائس وحتى القادة السياسيين الشيء نفسَه. فكثيراً ما نربط بين القصص وقرائِنا وذلك بلفت الانتباه إلى الطريقة التي تمدنا بها هذه القصص بالخلفيات التاريخيّة.
أما بالنسبة لحياة إبراهيم، فيمكننا وصف هذا الرابط بهذه الطريقة: نجد الرابط للخلفيات التاريخية عندما أشار موسى إلى الطرق التي تترسخ فيها جذور خبرات إسرائيل تاريخياً في أحداث حياة إبراهيم. خذ على سبيل المثال، الطريقة التي شرح فيها موسى الخلفية التاريخية لعرض أرض كنعان كوطن لشعب إسرائيل. ستذكر أن الإسرائيليين تساءلوا عدة مرات خلال فترة خروجهم من مصر، لماذا عليهم أن يقطعوا كل هذه المسافة إلى أرض كنعان. لماذا لم يسمح لهم موسى بالتوقف وعدم دخول تلك الأرض؟
وقد تطرّق موسى إلى هذا الموضوع بالذات في عددٍ من المناسبات وذلك بتقديم تفاصيل محدّدة للخلفية التاريخية لحياة إبراهيم. باختصار، بيّن موسى أن الله أعطى إبراهيم وطناً في كنعان تحديداً، حتى يفهم الإسرائيليون سبب إصراره على أن لديهم وطن في كنعان أيضاً. على سبيل المثال، نقرأ الكلمات التي قالها الله لإبراهيم في تكوين 15: 18:
 
لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ (تكوين 15: 18).
 
أكدت هذه الفقرة الأصل أو الخلفية التاريخية لسبب إصرار موسى على ملكية إسرائيل لأرض كنعان. لقد أعطى الله تلك الأرض لأب إسرائيل العظيم وهو بدوره أعطاها لهم باعتبارهم نسله، ولهذا، فإن الاستقرار في أرض أخرى لن يفي بالغرض.
وبينما نستكشف مزيداً من التفاصيل عن حياة إبراهيم، سوف نرى أن موسى أشار كثيراً إلى هذه الأنواع من الخلفيات التاريخية. وكانت الطريقة الرئيسية الثانية التي ربط موسى بها حياة إبراهيم بشعب إسرائيل في أيامه، بإعطائهم النماذج. دعونا نرى كيف تم تطبيق النماذج في هذه القصص.
 
النماذج
 
لم يُرِد موسى أن يتلقى قراؤه الأصليين قصص إبراهيم على أنها مجرد خلفية للمعلومات؛ فقد وصف العديد من المواقف في حياة رئيس الآباء، حتى يتمكنوا من رؤية عدد كبير من أوجه الشبه بين ظروف حياة إبراهيم وظروف حياتهم. وقد أثارت أوجه الشبه هذه قضايا أخلاقية بالنسبة لقرّاء قصص إبراهيم. كما وأشار موسى إلى أن أوجه الشبه هذه مكّنت الإسرائيليين من رؤية أمثلة للاقتداء بها أو لرفضها.
تُعتَبرُ روايةُ القصص بهدفِ تقديمِ نماذجٍ أو أمثلةٍ طريقةً شائعةً للربطِ بين القصصِ ومستمعينا. ويحدثُ هذا الأمرُ دائماً. فعندما نُحذّرُ أيَّ شخصٍ في العملِ بعدمِ فعلِ هذا أو ذاك، فإننا غالباً ما نُضيفُ قصةً حول ما حدث في آخرِ مرّةً ارتكب أحدهم فيها هذا الخطأ. وإن أردنا تعليمَ الأطفال لماذا ينبغي عليهم أن يجتهدوا في المدرسةِ، فإننا غالباً ما ندعم تعليماتَنا بقصصٍ تُقدّمُ أمثلةً عن أُناسٍ نجحوا نجاحاً باهراً لأنهم عَمِلوا باجتهادٍ في المدرسة.
كثيراً ما فعلَ موسى نفسَ الشيءِ ليربطَ رواياتَه عن إبراهيم بقرّائِهِ الأصليين من بني إسرائيل. وقد قدّمَ قصةَ إبراهيم حتى تكون شخصياتها بمثابةِ نماذجٍ لشعبِ إسرائيل، ليقتدوا بها أو يرفضوها.
فكر على سبيل المثال، كيف حضّ موسى الإسرائيليين على أن يتشجعوا ويتجرؤوا ضد تهديد الكنعانيين الذين أقاموا في أرض كنعان. ونعرف من الأسفار عدد وتثنية، أن الإسرائيليين الذين كانوا يتبعون موسى، رفضوا دخول أرض كنعان لأن الكنعانيين الأقوياء كانوا يقيمون فيها. وكانت قلوبهم مليئة بالخوف لأن الكنعانيين ظهروا وكأنهم عدوٌ لا يُقهَر. نقرأ في تثنية 1: 26-28، ما قاله موسى لأسباط إسرائيل:
 
لكِنَّكُمْ لَمْ تَشَاءُوا أَنْ تَصْعَدُوا وَعَصَيْتُمْ قَوْلَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ وَتَمَرْمَرْتُمْ فِي خِيَامِكُمْ وَقُلْتُمُ الرَّبُّ بِسَبَبِ بُغْضَتِهِ لَنَا قَدْ أَخْرَجَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لِيَدْفَعَنَا إِلَى أَيْدِي الأَمُورِيِّينَ لِكَيْ يُهْلِكَنَا. إِلَى أَيْنَ نَحْنُ صَاعِدُونَ. قَدْ أَذَابَ إِخْوَتُنَا قُلُوبَنَا قَائِلِينَ. شَعْبٌ أَعْظَمُ وَأَطْوَلُ مِنَّا. مُدُنٌ عَظِيمَةٌ مُحَصَّنَةٌ إِلَى السَمَاءِ (تثنية 1: 26–28).
 
وكانت إحدى الطرق التي عالج بها موسى هذا الخوف من الكنعانيين بتقديم مثال عن إبراهيم وهو يواجه الكنعانيين في أيامه. على سبيل المثال، نجد أول إشارة للكنعانيين في حياة إبراهيم في تكوين 12: 6:
 
وَاجْتَازَ أَبْرَامُ فِي الأَرْضِ… وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الأَرْضِ (تكوين 12: 6).
 
وبطريقة مشابهة، نقرأ هذه الكلمات في تكوين 13: 7:
 
وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ وَالْفَرِزِّيُّونَ حِينَئِذٍ سَاكِنِينَ فِي الأَرْضِ (تكوين 13: 7).
 
لماذا ذكر موسى وجود الكنعانيين في أرض الموعد مرتين وفي اثنتين من الحلقات المتجاورة؟ كان أحد أهدافه أن يُظهِر لشعب إسرائيل أن ظروف إبراهيم مشابهة جداً لظروفهم. كان الكنعانيون في أرض الموعد في أيام إبراهيم، مثلما كانوا في إسرائيل في أيام موسى. ومع ذلك، صدّق إبراهيم وعود الله وتقدَّم بجرأة إلى الأرض التي يقطنها الكنعانيون. وقد شجّع موسى قراءه بهذه الطريقة على الاقتداء بجرأة إبراهيم وذلك بالثقة بوعود الله وبالدخول إلى الأرض حتى ولو أن الكنعانيين ما يزالون يقطنون فيها. وأصبح إبراهيم بهذه الطريقة مثالاً يقتدون به.
أثناء دراستنا لحياة إبراهيم، سنجد العديد من الفقرات التي تقدم أمثلة إيجابية وسلبية. لكن في الدرجة الثالثة، كان هناك أوقات ربط فيها موسى حياة إبراهيم بحياة قرائه، وذلك بأن يُظهِر لهم كيف أنذرت الأحداث في حياة إبراهيم أو أشارت إلى الأحداث التي جرت في أيامه.   
 
الإنذارات
 
يتطلب رابط الخلفيات التاريخية، من عدة نواحي، القليل من أوجه الشبه بين القصة وقرائها لكي تحقق القصة هدفها؛ كما وتتطلب النماذج أو الأمثلة مزيداً من أوجه الشبه بين القصة وقرائها حتى يكون المثال ذو صلة. لكن يحدث الإنذار فقط عندما يكون هناك العديد من أوجه الشبه، لدرجة أن “ذلك العالم” من حياة إبراهيم يبدو إلى حدٍّ كبير مثل “عالمهم” أي عالم بني إسرائيل. ونادراً ما يحدث هذا النوع من الترابط الشامل في قصص حياة إبراهيم، لكن من وقت لآخر، وصف موسى أيام إبراهيم بطرق مشابهة للأحداث التي كانت تجري في أيامه إلى حدٍّ كبير.
لقد سمعَ الكثيرُ منّا القولَ المأثور “كثيراً ما يُعيدُ التاريخُ نَفسَه”. وبالطبعِ، نعلمُ جميعاً أنه لا وجودَ لتشابهٍ تامٍ بين مجموعتين من الأحداثِ التاريخية. ولكن قد تتشابهُ الأحداثُ في بعضِ الأحيان بحيث يبدو الحدثَ الثاني وكأنه تَكرارَ الأولُ. عندما رأى كُتَّابُ الكتابِ المقدس أن أحداثُ الماضي تبدو وكأنها تتكرر في حياةِ قُرائِهِم، فإنهم غالباً ما كانوا يجعلون هذا الترابطَ أوضح. وتُعرَف هذه التقنية الأدبية بالإنذار.
ويظهر مثال عن الإنذار في الحلقة المعروفة التي تصف عهد الله مع إبراهيم في تكوين 15: 1-21. لقد أكدَّ الله لإبراهيم بأن نسله سيمتلك أرض كنعان يوماً ما، وذلك بدعوته لإعداد طقس العهد. وقد قام إبراهيم بذلك بشق بعض الحيوانات في الوسط وبوضع قطع لحمها المذبوح على جانبي الطريق. وبعد أن وقع رئيس الآباء في سُبات، تلقى رؤية عن شيء يشبه إلى حدّ كبير خبرةً مرَّ بها القرَّاء الأصليون في أيامهم. نقرأ هذه الكلمات في تكوين 15: 17:
 
ثُمَّ غَابَتِ الشَّمْسُ فَصَارَتِ الْعَتَمَةُ. وَإِذَا تَنُّورُ دُخَانٍ وَمِصْبَاحُ نَارٍ يَجُوزُ بَيْنَ تِلْكَ الْقِطَعِ (تكوين 15: 17).
 
نتعلم من هذا السياق الواسع لهذه الفقرة، أن تنور الدخان ومصباح النار كانا يمثّلان الله نفسه ماراً بين لحم الحيوانات المذبوح، وهذا تأكيد على أن الله سيهب أرض الموعد لنسل إبراهيم.
فكّر بهذه الصورة. جاز الله أمام إبراهيم في تكوين 15: 17 على شكل تنور دخان ليؤكد أنه سيعطي أرض الموعد لنسل إبراهيم. وقد يبدو غريباً بالنسبة لنا كقّراء معاصرين أن يعطي الله تأكيده بالظهور على شكل دخان ونار. لكن عندما نتذكر أنَّ موسى كتب عن حياة إبراهيم للإسرائيليين الذين كانون يتبعونه إلى أرض الموعد، فإن شَمْلَ موسى لهذه التفاصيل لن يكون مستغرَباً على الإطلاق. لقد ظهر الله للإسرائيليين خلال سفرهم بطريقة تشبه تنور الدخان ومصباح النار. كما وظهر الله لهم على شكل دخانٍ ونار في غيمة المجد التي قادتهم نحو أرض الموعد.
وهكذا، كان ظهور الله لإبراهيم بهذه الطريقة إنذاراً لظهوره للإسرائيليين في أيام موسى. وكما حصل إبراهيم على تأكيدٍ بامتلاكه للأرض لأن الله ذهب أمامه على هذا النحو، كان ينبغي أن يكون للإسرائيليين الذين سمعوا هذه القصة تأكيد بامتلاكهم للأرض في أيامهم أيضاً.
ويظهر إنذار آخر أكثر شمولاً في حادثة خروج إبراهيم من مصر الموجودة في تكوين 12: 10–20. لقد كُتبت هذه الفقرة لإرشاد شعب إسرائيل في نظرتهم إلى مصر. وقد بنى موسى الحادثة بأكملها، في هذه الحالة، حتى توازي خبرة الإسرائيليين تحت قيادته عن كثب. وفي تكوين 12: 10–20، بدأ إبراهيم إقامته في مصر بسبب الجوع في أرض كنعان، وقد تأخر في مصر عندما أخذ فرعون سارة وضمّها إلى بيت نساءه، ولكن الله خلص إبراهيم بإرسال ضَرَباتٍ إلى بيت فرعون. فأرسل فرعون إبراهيم عندها بعيداً عن مصر وغادر إبراهيم ومعه ثروة عظيمة.
لقد صُممت هذه القصة عن إبراهيم بوضوح للإنذار بخبرة أجيال أمة إسرائيل فيما بعد. وتماماً مثل إبراهيم، أقام الإسرائيليين في مصر بسبب الجوع في أرض كنعان؛ وتم احتجازهم هناك من قبل فرعون؛ كما وتم خلاصهم بالضربات التي أرسلها الله إلى بيت فرعون، وأمر فرعون بإطلاق سراح الإسرائيليين فغادروا مصر بعد أن سلبوا ثروات المصريين. وقد شكّل موسى سجله ليكون بمثابة إنذار إلى خبرات قرائه. إن هذا النوع من الإنذار نادرٌ في قصص إبراهيم، لكنّ روابط كهذه تظهر هنا وهناك في قصص حياة إبراهيم.
وكما قرأنا من خلال حياة إبراهيم، سوف نرى الروابط الثلاثة كلها في طرق وأوقات مختلفة. لقد ربط موسى بين “ذلك العالم” من حياة إبراهيم و”عالمهم”، أي عالم قرّائه الأصليين، بإعطائهم الخلفيات التاريخية لخبراتهم، تزويدهم بنماذج للاقتداء بها أو رفضها، وبإظهار كيف أنذرت حياة إبراهيم بالعديد من خبراتهم.
بعد أن رأينا أنواع الروابط التي أقامها موسى بين إبراهيم وقرائه الإسرائيليين، سيكون من المفيد أن نلخص كيف ترتبط كل خطوة أساسية من حياة إبراهيم بحياة القرّاء الأصليين.
 
التلخيص
 
سوف تتذكر أن حياة إبراهيم تنقسم إلى خمس خطوات متناظرة. وقد وجد موسى في كلٍ من هذه الأقسام، طرقاً لربط قصصه عن إبراهيم بظروف قرائه الأصليين.
أولاً، تحدث موسى عن خلفية إبراهيم والخبرات السابقة بطرق ارتبطت بالخلفية والخبرات السابقة للشعب الذي تبعه عند خروجه من مصر. حيث انحدر كلّ من إبراهيم والإسرائيليين من نفس العائلة. ودعا الربّ كليهما لسكنى أرض كنعان. وهكذا، أعطى موسى الخلفيات التاريخية، قدم إبراهيم كنموذج، وحتى أنه بيّن الطرق التي أنذرت فيها حياة إبراهيم لخبرات القراء الأصليين.
ثانياً، وصف موسى أيضاً اتصالات إبراهيم السابقة مع الآخرين بطرق ارتبطت فيها بقرائه. حيث تحدّث عن كيفية تفاعل إبراهيم مع المصريين لأن بني إسرائيل تفاعلوا مع المصريين في أيامهم. تكلم عن إبراهيم ولوط لأن بني إسرائيل تفاعلوا مع نسل لوط، الموآبيين وبني عمون. وكتب عن ملوك الشرق وعن ملك سدوم الكنعاني لأنه كان لإسرائيل خبرات مماثلة مع ملوك أجانب ومدن الكنعانيين.                 
ثالثاً، كتب موسى عن عهد الله مع إبراهيم لأن بني إسرائيل دخلوا في عهدٍ مع الله أيضاً. لقد أنذر عهد الله مع إبراهيم للعهد الذي قطعه الله مع إسرائيل بعدة طرق مختلفة.
رابعاً، كتب موسى عن اتصالات إبراهيم اللاحقة مع الآخرين. حيث كتب عن شعب سدوم وعمورة، لوط وأبيمالك الفلسطيني لأن بني إسرائيل واجهوا شعوباً مماثلة في أيامهم: المدن الكنعانية، الموآبيين، بني عمون والفلسطينيين.
وخامساً، كتب موسى عن ذرية إبراهيم ووفاته بطريقة ارتبطت بقرائه الإسرائيليين. حيث ركّز على إسحاق بصفته ابن إبراهيم ووريثه الخاص، لأن قراّءه الإسرائيليين انحدروا من إسحاق. ولفت الانتباه إلى موقع دفن سارة لأن ذلك الموقع كان في الأرض التي وعد بها الله للإسرائيليين. كما أنه لفت الانتباه إلى أولادٍ آخرين لإبراهيم لم يكونوا ورثةً له، وخاصة إسماعيل، لأنه كان على بني إسرائيل أن يتعاملوا مع الإسمعيليين في يومهم.
وهكذا نرى أنه عندما كتب موسى عن إبراهيم، استخرج عدة روابط مختلفة بين قصصه وخبرات قرائه الإسرائيليين. وقد قام بذلك ليقدّم للإسرائيليين إرشاداً هاماً بينما كانوا يتبعونه إلى أرض الموعد.
بعد أن رأينا الطرق الرئيسية التي ربط بها موسى بين حياة إبراهيم وقرائه الإسرائيليين، نحن بحاجة إلى أن نسأل سؤالاً هاماً آخر حول المعنى الأصلي. ما هي مضامين هذه الروابط بالنسبة للقرّاء الأصليين؟ ماذا كان عليهم أن يتعلموا من قصص حياة إبراهيم؟
 
المضامين
 
لا شكَّ أنهُ عندما يقومُ الناسُ بكتابةِ تاريخٍ مُعقدٍ كحياةِ إبراهيم في سفرِ التكوين، يكونُ لديهم كلَ أشكالِ الدوافعَ والأهداف. فهم يُريدونَ أن يكونَ لرواياتِهِم تأثيراتٌ متعددةٌ على قرّائِهِم. في الواقعِ، عندما كتَبَ موسى عن حياةِ إبراهيم، كانت مقاصدَهُ مُتعددةٌ حتى أنهُ من المستحيلِ اكتشافِها بشكلٍ كاملٍ، ناهيك عن ذكرِها كُلِّها في بضعةِ جُملٍ. وفي نفسِ الوقت، يمكنُ تلخيصُ المضامينَ الرئيسيةِ التي كان يأملُ موسى أن يستخرجَها قراؤُهُ من قصصهِ عن إبراهيم.
سوف نستكشف المضامين الأصلية لحياة إبراهيم في ثلاث خطوات. أولاً، سوف نصف التأثير الأساسي الذي كان مخططاً أن يكون لهذه القصص على القراء الأصليين. ثانياً، سوف نرى كيف يكشف تأثير هذه القصص المواضيع الرئيسية الأربعة لحياة إبراهيم. وثالثاً، سوف نلخص المضامين الأصلية لكل من الخطوات الخمس في قصص موسى عن إبراهيم. دعونا ننظر أولاً إلى التأثير الأساسي الذي كان مخططاً أن يكون لهذه القصص.
 
التأثير الأساسي
 
وبعبارات عامة جداً، من المفيد أن نلخص الهدف من قصة إبراهيم بهذه الطريقة: كتب موسى عن إبراهيم ليعلّم بني إسرائيل لماذا وكيف أن عليهم ترك مصر وراءهم وأن يستمروا نحو احتلال أرض الموعد. بعبارة أخرى، إن رؤية الخلفيات التاريخية لحياتهم في شخص إبراهيم، إيجاد نماذج وأمثلة للاقتداء بها أو رفضها في قصص إبراهيم، وتمييز كيف أنذرت حياته عما يحصل في حياتهم، مكّن الإسرائيليين الذين يتبعون موسى من رؤية الطرق التي كان عليهم أن يسعوا من خلالها لتحقيق مقاصد الله لأجلهم.
ورغم ثقتنا، بناءً على شهادة الكتاب المقدس وحتى يسوع نفسه بأن سفر التكوين كُتب في أيام موسى، علينا أن نشير أنه لا يمكننا أن نكون متأكدين بدقة من الوقت الذي أكمل فيه موسى هذه القصص كما هي الآن. وأياَّ كانت الحالة، يمكننا القول بأمان أن اهتمام موسى الرئيسي عندما كتب تاريخ ابراهيم، كان مشابهاً جداً لأي جيل. لقد كتب موسى عن ابراهيم لكي يحوّل قلوبهم بعيداً عن مصر ونحو امتلاك أرض الموعد.
كان هذا المضمونُ العام بالنسبةِ للقراء الأصليين في غاية الأهمية. حيثُ كتَبَ موسى ليُشجّعَ شعبَ إسرائيل الذي يتبعَهُ على عدمِ العودةِ إلى مِصر وعلى النجاحِ في الاستيلاءِ على أرضِ كنعان. ويُرشدُنَا هذا المضمونُ الرئيسيّ في تطبيقِنَا المعاصر لحياةِ إبراهيم. كمسيحيين نحن في رحلةٍ، رحلةٌ في الواقعِ تُكمّل الرحلةَ التي بدأهَا بنو إسرائيل في أيامِ موسى. فنحن نتقدمُ باتجاهِ السماواتُ الجديدةَ والأرضُ الجديدةَ. وبالتالي، لكي نطبّقَ قصصَ إبراهيم على حياتِنا بشكلٍ صحيحٍ، علينا أن ننتبه إلى الطرقِ التي وجّهت بها القرّاءَ الأصليين لمتابعةِ التقدّمَ باتجاهِ كنعان.
حتى نفهم هذا التركيز الشامل قليلاً، علينا أن ننظر إلى هدف موسى بمزيد من التفصيل وذلك بالرجوع إلى المواضيع الرئيسية الأربعة التي سبق وحددناها في هذا الجزء من سفر التكوين.
 
 
المواضيع الرئيسية
 
ستتذكر أننا اقترحنا في وقت سابق من هذا الدرس أن تكوين 12: 1–3 يقدّم على الأقل أربعة مواضيع تعطي تماسكاً لهذا الجزء من تاريخ رئيس الآباء. تعبِّر هذه المواضيع الرئيسية الأربعة عن التأثير المركزي الذي قصد موسى أن يكون لقصصه. أولاً، ركز على النعمة الإلهية تجاه إبراهيم؛ ثانياً، ركز على ولاء إبراهيم لله؛ ثالثاً، كان مهتماً ببركات الله لإبراهيم؛ ورابعاً، ركّز على بركات الله من خلال ابراهيم. من المفيد أن نفكر في هدف موسى الأصلي للكتابة عن إبراهيم آخذين هذه الأفكار الأربع بعين الاعتبار.
 
النعمة الإلهية
 
أولاً، كتب موسى عن الطرق التي أظهر فيها الله نعمة إلهية تجاه إبراهيم. بعبارات عامة، سبق ورأينا أن الله أظهر نعمةً كثيرة تجاه إبراهيم، في كلٍّ من السنوات الأولى من علاقته مع الله، ويومياً خلال حياته كلها. لقد صُممِت فكرة النعمة الإلهية لتذكر الإسرائيليين في زمن موسى أن الله أظهر رحمة عظيمة تجاههم أيضاً. لقد أظهر الله لهم النعمة المبكرة عندما جاء بهم من مصر إلى سيناء. واستمر في إظهار الرحمة اليومية تجاههم، حتى عندما أعدّهم لاحتلال أرض كنعان في المستقبل.
تحدثنا الكلمات المعروفة التي تفوَّه بها الله في سيناء في خروج 19: 4، عن نعمة الله بهذه الطريقة:
أَنْتُمْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِالْمِصْرِيِّينَ. وَأَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ النُّسُورِ وَجِئْتُ بِكُمْ إِلَيَّ (خروج 19: 4).
 
للأسف، نسي الإسرائيليون، الذين قادهم موسى، كمية الرحمة التي تلقوها من الله. واشتكوا في مرحلة مبكرة بأن الله وموسى قد خدعوهم بإبعادهم عن وسائل الراحة في مصر. حيث اشتكوا حول الطعام والماء في البّرية. وظنّوا أن الله طلب منهم الكثير عندما دعاهم لاحتلال أرض الموعد. ولهذا، شدّد موسى كثيراً على الطرق التي أظهر فيها الله رحمته لإبراهيم، ليذكّر قراءه الأصليين بالطرق التي باركهم فيها الله، أي المراحم التي قد أظهرها الله لهم مراراً وتكراراً.
 
ولاء إبراهيم
 
ثانياً، لقد رأينا أن موسى أكّد على ولاء إبراهيم لله بلفت الانتباه إلى الطرق العديدة التي حمَّل فيها الله إبراهيم مسؤولية طاعة وصاياه. لقد أكدّ موسى مراراً وتكراراً على أن الله توقّع من إبراهيم أن يكون مُخلصاً لوصاياه، لأن تركيز موسى كان أيضاً على علاقة بالإسرائيليين الذين كانوا يتبعونه. وكان هذا التركيز على مطلب الولاء موجه إلى شعب إسرائيل في أيام موسى أيضاً. اصغ إلى الطريقة التي تابع فيها الله مخاطبته لبني إسرائيل على جبل سيناء في خروج 19: 4-5:
 
أَنْتُمْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِالْمِصْرِيِّينَ. وَأَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ النُّسُورِ وَجِئْتُ بِكُمْ إِلَيَّ. فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ (خروج 19: 4–5).
 
لاحظ هنا أن البركات المعطاة لبني إسرائيل ليصبحوا خاصةً له من بين الشعوب كانت تعتمد على إخلاصهم. وعلى الرغم من أن الله أظهر رحمة كثيرة تجاه الأمة، إلا أن وضع كل شخص في كل جيل كان معتمد على كيفية استجابته لوصايا الله.
وكما رأينا، كانت المسؤولية الرئيسية التي أعطاها الله لإبراهيم، أن يذهب إلى أرض كنعان. وشدّد موسى على هذه المسؤولية لأنه أراد من بني إسرائيل الذين يتبعونه، أن يتابعوا في مسارهم إلى أرض كنعان أيضاً. وبالطبع، عندما كتب موسى عن مسؤوليات إبراهيم الأخرى، فقد قام بذلك ليعلّم الإسرائيليين في يومه عن مسؤولياتهم الأخرى الكثيرة. وقد تحدثت متطلبات ولاء إبراهيم العديدة بوضوح عن حقيقة أن على القرّاء الأًصليين أن يكونوا أوفياء ومخلصين لوصايا الله أيضاً.
 
بركات لإبراهيم
 
ثالثاً، رأينا أيضاً أهمية موضوع بركات الله الموعودة لإبراهيم. ركّز موسى في قصص إبراهيم، على البركات الموعودة لإبراهيم ونسله بالأمة العظيمة، الازدهار والاسم العظيم. حتى أننا نرى أن إبراهيم اختبر في عددٍ من المناسبات بعض العيّنات من هذه البركات في حياته. بينما ركّزت قصص إبراهيم في عدة مناسبات أخرى، على الإنجازات المستقبلية لهذه البركات في الأجيال القادمة. وقد ركّز موسى على بركات الله لإبراهيم بهذه الطرق، لأن هذه الوعود كانت لنسل إبراهيم أيضاً، أي بني إسرائيل الذين قادهم موسى. كان بنو إسرائيل موعودين ببركات عظيمة أيضاً. حيث سيصبحوا أمةً عظيمةً، يختبروا ازدهاراً لم يسبق له مثيل، ويُعطَون اسماً عظيماً عندما يدخلوا إلى أرض الموعد.
في الواقع، وكما حصل مع إبراهيم، اختبر بنو إسرائيل أيضاً العديد من عيّنات هذه البركات في الوقت الذي كُتِب فيه سفر التكوين. حيث بدأوا يرون إنجازات بعض هذه الوعود في حياتهم. ومع ذلك، كان ما يزال العديد من الإنجازات المستقبلية لهذه البركات التي ستتحقق بعد دخولهم أرض الموعد. تكلم الله عن هذه البركات المستقبلية لبني إسرائيل في سيناء بهذه الطريقة في خروج 19: 6:
 
وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً (خروج 19: 6).
 
لقد كتب موسى عن البركات التي وعد بها الله لإبراهيم لكي يزرع الأمل في بني إسرائيل في يومه. فعندما يقرأوا عن وعود الله لرئيس الآباء، فإنهم يتمكنون من رؤية بركات الله العظيمة المُدّخَرة لهم بوضوح.
 
 
 
بركات من خلال إبراهيم
 
رابعاً، لقد رأينا أيضاً أن قصص إبراهيم تُظهر أن بركات الله ستأتي أيضاً من خلال رئيس الآباء للعالم كله. وكما تذكر، لن تأتي البركات من خلال إبراهيم بطريقة بسيطة. حيث نتعلم من تكوين 12: 3 أن الله سيهب إبراهيم النجاح من خلال عملية مباركة أصدقاء إبراهيم ولعن أعدائه. وقد بيّن موسى في حلقات مختلفة، كيف أعطى الله إبراهيم عيّنات من هذه العملية في حياته، عند تفاعله مع شعوب آخرين يمثلون أمماً مختلفة. كما بيّن موسى في قصصه عن حياة إبراهيم في عدةٍ مناسبات، أن العديد من الإنجازات سيحدث في المستقبل.
وقد شددّ على هذه الفكرة لأنها كانت ذات صلة ببني إسرائيل الذين تبعوه في أيامه. وأكد لهم الله النجاح في أن يكونوا بركة للآخرين لأنه سيبارك أصدقائهم ويلعن أعداءهم. وقد شَهِدوا هم أيضاً عيّنات من هذه الوعود عندما تفاعلوا مع مجموعات مختلفة من الناس في أيامهم. حيث رأوا الله يبارك أصدقاءهم ويلعن أعداءهم في عدةٍ مناسبات. علاوة على ذلك، ركّز موسى على هذه المسائل أيضاً، ليحوّل نظر الإسرائيليين نحو الإنجازات المستقبلية عند دخولهم أرض الموعد ونشر ملكوت الله في بقاع الأرض كلها. وكما رأينا للتو، قال الرب لإسرائيل في خروج 19: 6:
 
وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً (خروج 19: 6).
 
لا تدّل هذه الرؤية للأمة باعتبارها مملكة كهنة على أن الأمة نفسها ستكون مباركة بامتياز كونها شعب مقدس يخدم الله فحسب، لكنها تدلّ أيضاً على أن أبناء إسرائيل سيخدمون مقاصد الله في العالم كله. بينما أوحى موسى لبني إسرائيل أن يتقدّموا باتجاه أرض الموعد، كانت قصصه حول ابراهيم مُصممَة لتغرس فيهم الرؤية لكيفية استخدام الله لهم لنشر ملكوته وبالتالي بركاته للعالم كله.
بعد أن رأينا مضامين المواضيع الرئيسية الأربعة لحياة إبراهيم بالنسبة للقراء الأصليين، دعونا نلخص بسرعة تأثير قصص إبراهيم على القرّاء الأصليين بالنظر إلى كلٍ من الخطوات الرئيسية في بنية حياة رئيس الآباء كما هي مدوّنة في سفر التكوين.
 
الخطوات الخمس
 
ستذكر أن القصص عن حياة إبراهيم تنقسم إلى خمس خطوات رئيسية. أولاً، خلفية حياة إبراهيم وخبراته السابقة في 11: 10-12: 9. ثانياً، اتصالات إبراهيم السابقة مع الآخرين في 12: 10-14: 24. ثالثاً، علاقة إبراهيم العهدية مع الله في 15: 1-17: 27. رابعاً، اتصالات إبراهيم اللاحقة مع الآخرين في 18: 1-21: 34. وخامساً، ذرية إبراهيم ووفاته في 22: 1-25: 18.
وتنقسم كل واحدة من هذه الخطوات الرئيسية إلى عدد من الأجزاء أو الحلقات الأصغر حجماً. وسنلخص المحتوى بالإضافة إلى بعض المضامين الرئيسية لهذه الحلقات بالنسبة للقراء الأصليين الذين لأجلهم كتب موسى.
 
الخلفية والخبرات السابقة
 
ذكرت الخطوة الأولى من حياة إبراهيم، أي خلفيته وخبراته السابقة عدة ميزات لعائلة إبراهيم، والوقت الذي دعا فيه الله إبراهيم لكي يخدمه. بعبارات عامة، صمم موسى هذه الخطوة الأولى ليبّين لقرائه الأصليين الإسرائيليين كيف يمكنهم معرفة خلفية عائلتهم ودعوة الله لهم من هذه الأحداث التي جرت في حياة إبراهيم. تنقسم هذه الخطوة الأولى إلى ثلاثة أجزاء أو حلقات.
تبدأ حياة إبراهيم بسلسلة نسب تعرض نسب إبراهيم المفضل والذي يتمتع بالنعمة الإلهية في 11: 10-26. وتؤكد هذه الآيات أن إبراهيم كان شخصية في ذروتها في عائلة سام، أي الأسرة التي حظيت بمركز مفضل أمام الله لكونها شعب الله المختار الخاص. وكان لابد أن تُذكّر سلسلة النسب هذه قرّاء موسى الأصليين الإسرائيليين أنه باعتبارهم من عائلة إبراهيم، فإنهم يشتركون في المركز المفضل نفسه. لقد كانوا شعب الله المختار الخاص.
تشكل الحلقة الثانية من خلفية حياة إبراهيم وخبراته السابقة سلسلة نسب أخرى في 11: 27-32. باختصار، تُصوّر هذه الفقرة تارح كعابد أوثان حاول الذهاب إلى أرض كنعان، لكنه فشل. لقد رأى قراء موسى الأصليين التشابه بين ظروفهم وظروف ابراهيم بسهولة. حيث مارس آباؤهم عبادة الأوثان وفشلوا في الوصول إلى أرض كنعان أيضاً. وهكذا، وكما كان على إبراهيم أن يتجنب تكرار فشل والده، على الإسرائيليين الذين تبعوا موسى أن يتجنبوا فشل آبائهم وأمهاتهم، أي عبدة الأوثان في الجيل الأول بعد خروجه من مصر، والذي فشل في الوصول إلى أرض كنعان.
ثمَّ انتقلت خلفية حياة إبراهيم وخبراته السابقة إلى قصة هجرة إبراهيم إلى أرض كنعان في 12: 1-9. حيث دعا الله إبراهيم إلى أرض كنعان، وأطاع إبراهيم دعوة الله بالرغم من الصعوبات الكثيرة. وبنفس الطريقة إلى حدّ كبير، دعا الله قرّاء موسى الأصليين الإسرائيليين إلى أرض كنعان، وكان عليهم أن يطيعوا أيضاً بالرغم من الصعوبات الكثيرة. وهكذا كان لقصة هجرة إبراهيم إلى أرض كنعان مضمون أصلي بأن على الإسرائيليين في أيام موسى أن يتبعوا خُطى إبراهيم ويهاجروا إلى أرض كنعان كما فعل إبراهيم.
عرض موسى من خلال هذه الأجزاء الثلاثة، سيرة حياة إبراهيم وقدم إرشاداً مهماً لقرائه الأصليين أثناء مواجهتهم لتحديات خدمتهم للرّب.
 
الاتصالات السابقة مع الآخرين
 
تركّز الخطوة الرئيسية الثانية من سجل سفر التكوين لحياة إبراهيم على اتصالات إبراهيم السابقة مع الآخرين. وتصف هذه الفصول تفاعل رئيس الآباء مع مجموعات أخرى من الناس بطرقٍ متنوعة لكي يرشد القرّاء الإسرائيليين الأصليين عند تفاعلهم مع الآخرين.
وصف موسى في الحلقة الأولى، خروج إبراهيم من مصر في تكوين 10:12-20. وستتذكر أن إبراهيم أقام مؤقتاً في مصر بسبب الجوع، لكن الله حرّره من عبودية مصر عندما أرسل الضربات إلى بيت فرعون. وبسبب خلاص الرب العظيم، غادر إبراهيم مصر مع ثروة كبيرة ولم يرجع أبداً. وقد علم إبراهيم بوضوح أن مصر لم تكن موطنه.
واستطاع قرّاء موسى الأصليين الإسرائيليين رؤية أن تجاربهم عكست عدة جوانب من قصة ابراهيم. فقد ذهبوا إلى مصر بسبب الجوع. وحررهم عندما أرسل الله الضربات إلى المصريين، وغادروا مصر أيضاً مع الكثير من ثروات المصريين. للأسف، عندما واجه الإسرائيليون الصعوبات في سفرهم، بدأ العديد منهم باعتبار الحياة في مصر مثالية وأرادوا العودة إليها. ولكن كان لابد أن توضح هذه الحلقة للقرَّاء الأصليين أن مصر لم تكن موطنهم. كان عليهم أن يذكروا كيف حرّرهم الله بنعمته، وأن يتركوا مصر والمصريين وراءهم.
أما الحلقة الثانية من اتصالات إبراهيم السابقة مع الآخرين، فتكمن في قصة خلافه مع لوط في 13: 1-18. وهذه هي القصة المعروفة للخلاف بين رجال لوط ورجال إبراهيم، عندما تنازعت المجموعتان حول الموارد الطبيعية لمواشيهما. في هذا الصراع، عامل إبراهيم لوط بلطف، وسمح له أن يعيش بسلام في الأرض التي اختارها. وقد يواجه القراء الأصليين لسفر التكوين صعوبة في استيعاب ما عنته هذه القصة بالنسبة لهم. ووفقاً لسفر التثنية 2، بينما كان الإسرائيليون مسافرين تجاه أرض الموعد، أمرهم موسى أن يعاملوا نسل لوط بلطف، حتى يعيشوا بسلام في أرض أسلافهم. في الواقع، إن معاملة إبراهيم اللطيفة للوط أظهرت للإسرائيليين كيف كان عليهم أن يعاملوا الموآبيين في أيامهم.
تكمن الحلقة الثالثة من اتصالات إبراهيم السابقة مع الآخرين في قصة إنقاذ إبراهيم للوط في 14: 1-24. حيث وصفت هذه القصة المعقدة كيف هزم إبراهيم الملوك المستبدين الأقوياء الذين قَدِمُوا من بعيد، وكيف أظهر إبراهيم مزيداً من اللطف نحو لوط وذلك بإنقاذه من أولئك الملوك المستبدين. وقد تحدثت هذه القصة إلى الإسرائيليين الذي تبعوا موسى بشكل صريح إلى حدٍ ما. فعند عبور الإسرائيليين في أراضي الموآبيين وبني عمون المنحدرين من نسل لوط، هزم جيش إسرائيل الملكين المستبدين، سيحون ملك الأموريين وعُوجْ ملك باشان، اللذين اضطهدا الموآبيين وبني عمون. وبإنقاذ الموآبيين وبني عمون بهذه الطريقة، اتبع الإسرائيليين النموذج الذي وضعه إبراهيم لهم.
وهكذا، نرى في كل حلقة من هذه المرحلة من حياة إبراهيم، تم تقديم إبراهيم كنموذج لبني إسرائيل لكي يقتدوا به في أيامهم.
 
العهد مع الله
 
نصل الآن إلى الخطوة الرئيسية الثالثة من حياة إبراهيم، العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم في 15: 1-17: 27. بعبارات عامة، تركز هذه الخطوة على عهد الله مع رئيس الآباء بطرقٍ تُظهر ميزة علاقة إسرائيل العهدية مع الله. وتنقسم هذه الإصحاحات إلى ثلاثة أقسام رئيسية.
تركز الحلقة الأولى بشكل خاص على وعود الله العهدية لإبراهيم وذلك في 15: 1-21. إن هذا الإصحاح هو الوصف المعروف للوقت الذي دخل فيه الله في عهدٍ مع إبراهيم. حيث وعد الله أن يعطي إبراهيم الوعد بالذرية والأرض. بالتحديد وعد الله بأن يكون لإبراهيم نسلاً وفيراً، وأنه بعد وقتٍ من الضيق في أرضٍ غريبة، سيعود نسل إبراهيم إلى أرض الموعد. وقد صُمِمت هذه الفقرة لتذكّر الإسرائيليين بأن الله دخل في عهد مماثلً مع إسرائيل من خلال موسى. وأكثر من هذا، أظهرت لهم هذه الفقرة بأنهم اختبروا تحقيق وعود الله لإبراهيم. فقد كان الإسرائيليون ذرية إبراهيم الموعودة، وكانوا عائدين إلى الأرض التي وعد بها الله لرئيس آبائهم. إن الشك بهذه الحقائق هو كالشك بوعود الله العهدية التي قطعها الله لإبراهيم والتي أعاد تأكيدها مع موسى.
إن الحلقة الثانية التي تركز على عهد الله مع إبراهيم هي فشل إبراهيم مع هاجر في 16: 1-16. وتستعيد هذه القصة الحزينة كيف ابتعد إبراهيم وسارة عن وعود الله العهدية، وذلك بالسعي للحصول على ولدٍ من جارية سارة المصرية، هاجر. وحيث فشل إبراهيم وسارة في الثقة في وعود الله العهدية، لكن الله رفض خطتهما البديلة وذلك بعدم القبول بالولد إسماعيل على أنه نسل إبراهيم الحقيقي. وقد تحول قرّاء موسى الأصليون عن وعود الله العهدية مراراً وتكراراً، ورغبوا في العودة إلى وسائل الراحة في مصر. وقد علمتهم هذه القصة من حياة إبراهيم أنه مثلما تمَّ رفض خطة إبراهيم، سيتم رفض بدائلهم لخطة الله أيضاً.
إن الحلقة الثالثة التي تركّز على عهد الله مع إبراهيم هي وصف لمتطلبات العهد مع إبراهيم في 17: 1-27. حيث واجه الله إبراهيم، في هذه الفقرة، بسبب فشله في إتباع خطة الله. كما وأعاد الله تأكيد الحاجة إلى الولاء للعهد وذلك بإقامة الختان كعلامة عهد ينبغي تطبيقها على إبراهيم وأبنائه. وقد ذكّر الله إبراهيم من خلال هذه العلامة، إن علاقة العهد استلزمت مسؤولية الولاء، وأن هذا الولاء سيؤدي إلى بركات عظيمة. وقد روى موسى هذا الجانب من العهد مع إبراهيم ليواجه الإسرائيليين في يومه بفشلهم في البقاء أوفياء، وليعيد تأكيد حاجة الإسرائيليين إلى الولاء للعهد. ويمكن للإسرائيليين أن يأملوا في الحصول على بركات الله العظيمة فقط، عندما يكونوا مخلصين لعهدهم مع الله.
وهكذا، لفت الجزء المركزي من حياة إبراهيم، أي عهده مع الله، الانتباه إلى نعمة وعود الله المدهشة لإسرائيل. لكنه ذكّر قراءه أيضاً بقوة بأنهم ملزمون بإظهار خدمة وفية لإله العهد.
 
الاتصالات اللاحقة مع الآخرين
 
نأتي الآن إلى الخطوة الرابعة من حياة إبراهيم: أي اتصالاته اللاحقة مع الآخرين في 18: 1-21: 34. واجه إبراهيم في هذه الإصحاحات أشخاصاً مختلفين كانوا على صلة مع أناس يعيشون في أيام موسى. حيث تفاعل إبراهيم مع الكنعانيين سكان سدوم وعمورة؛ لوط؛ أبيمالك؛ وإسماعيل. بعبارات عامة، إن تفاعلات إبراهيم مع هؤلاء الناس علّمت الإسرائيليين كيف يتفاعلوا مع الكنعانيين، الموآبيين، بني عمون؛ الفلسطينيين والإسماعيليين في يومهم.
إن القصة الأولى في هذا الجزء من حياة إبراهيم هي وصف سدوم وعمورة في 18: 1-19: 38. وتخبر هذه الرواية المعروفة عن التهديد بالعقاب الإلهي ضد المدن الكنعانية الشريرة. حيث تتحدث عن اهتمام إبراهيم بالأبرار في تلك المدن، ودمار هذه المدن بالإضافة إلى إنقاذ لوط. وقد خاطبت هذه الأحداث الوضع الذي يُواجه قرّاء موسى الأصليين بشكل مباشر. وساعدتهم في فهم ما كان يحدث للشعوب التي تعيش في أيامهم: تهديد الله للكنعانيين، الاهتمام الذي كان عليهم أن يظهروه نحو الأبرار من الكنعانيين (مثل راحاب التي كانوا سيقابلونها في أريحا)، الدمار الذي كان سيحل بالمدن الكنعانية بشكل مؤكد، وعلاقتهم بنسل لوط، الموآبيين وبني عمون.
يظهر الجزء الثاني من اتصالات إبراهيم اللاحقة مع الآخرين في 20: 1-18. حيث تشفّع إبراهيم، في هذه القصة، مرة أخرى من أجل أحد سكان الأرض، تحديداً أبيمالك الفلسطيني. وستتذكر أن أبيمالك هدّد مستقبل إبراهيم بأخذ سارة منه، غير عارف أنها زوجته. ثمَّ، أنزل الله عقاباً على أبيمالك، وقد ثَبُتَ أن أبيمالك بارّ وذلك بتوبته عن أفعاله. ونتيجة لتوبته، تشفع إبراهيم من أجل أبيمالك، وتمتع إبراهيم وأبيمالك سويةً بسلام وصداقة طويلي الأمد.
وقد أخبرت هذه القصة الإسرائيليين في أيام موسى عن المواقف التي ينبغي عليهم اتخاذها تجاه الفلسطينيين في أيامهم. حيث هدّد الفلسطينيون بني إسرائيل في مجموعة مختلفة من الطرق. لكن عندما أدى التهديد بالعقاب الإلهي إلى توبة الفلسطينيين، كان على الإسرائيليين أن يتشفّعوا من أجلهم، وأن يتمتعوا بسلام طويل الأمد معهم.
تركّز الرواية الثالثة من هذا الجزء، والموجودة في 21: 1-21، على العلاقة الصعبة بين إسحاق وإسماعيل. كان إسحاق وإسماعيل أبناء لإبراهيم. لكن عندما اشتد التوتر بينهما، أمر الله إبراهيم أن يفصل إسماعيل عن الأسرة. ومع ذلك بارك الله إسماعيل، لكنه أوضح أن الوريث الشرعي الوحيد لإبراهيم هو إسحاق. عندما أخبر موسى قرّاءه الإسرائيليين الأصليين عن هذه الأحداث، ساعدهم هذا على فهم طبيعة علاقتهم بالإسماعيليين في أيامهم. وعندما اشتد التوتر بين الإسرائيليين والإسماعيليين، كان على الإسرائيليين أن يتذكروا أن الله أمر بالفصل بينهم. ورغم أن الله بارك الإسماعيليين بعدة طرق، إلاَّ أن الإسرائيليين هم الورثة الحقيقيين لإبراهيم.
إن الحلقة الرابعة من اتصالات إبراهيم اللاحقة مع الآخرين هي في قصة ميثاق إبراهيم مع أبيمالك في 21: 22-34. حيث تقدم هذه القصة تقريراً عن كيف أقر أبيمالك بإحسان الله تجاه إبراهيم، وكيف وافق إبراهيم على العيش بسلام مع أبيمالك ونسله. ومن ثمَّ تستمر القصة لتخبر عن الخلاف الذي نشأ حول حقوق المياه لأغنام إبراهيم، وكيف دخل إبراهيم وأبيمالك في ميثاق رسمي في بئر سبع، متعهدين بالاحترام والإجلال المتبادلين.
وذكَّر أبيمالك ورئيس جيشه موسى والإسرائيليين بالتهديد القوي الذي كان يشكله الفلسطينيون عليهم في أيامهم. وعلَّم موسى قراءه هنا أنه إذا أقر الفلسطينيون ببركة الله لإسرائيل، ينبغي أن يقتدي الإسرائيليون بمثال إبراهيم ويعيشوا بسلام معهم. ولا يزال البئر الذي يدعى بئر سبع موجوداً في أيام موسى، مذكراً بني إسرائيل بالميثاق الذي عُقِدَ هناك، وبأن يسعوا للسلام والاحترام المتبادل مع الفلسطينيين.
وهكذا، نرى أن القصص المتعلقة باتصالات إبراهيم اللاحقة تضمنت العديد من الشخصيات التي تطابقت مع الناس الذين تقابل معهم موسى وشعب إسرائيل. وبالنظر إلى أعمال إبراهيم، تمكن بني إسرائيل من تعلم الكثير من الدروس في أيامهم.
 
الذرية والوفاة
 
لقد وصلنا الآن إلى الخطوة الأخيرة من سجل موسى عن حياة إبراهيم، ذريته ووفاته في تكوين 22: 1-25: 18. وتركّز هذه الحلقات على تراث إبراهيم والذي وسَّع علاقته العهدية مع الله لتشمل أجيال المستقبل. بعبارات عامّة، كان يجدر بالإسرائيليين الذين تلقوا هذه القصص من موسى أولاً أن يتعلمّوا الكثير منها عن وضعهم كورثة لإبراهيم، وعن الآمال التي كان ينبغي أن يحملونها لذريتهم.
إن الحلقة الأولى من هذا الجزء من حياة إبراهيم هي القصة المعروفة عن امتحان إبراهيم في 22: 1-24. حيث كان هذا الاختبار مُصمَمَاً ليقرر إذا كان إبراهيم يحب الله أكثر من ابنه إسحاق. فقد بدأ الله اختباراً صعباً، عندما دعا إبراهيم للتضحية بابنه. وقد أطاع إبراهيم، وأكدَّ الله لإبراهيم أن نتيجة طاعته ستكون مستقبلاً مشرقاً لإسحاق.
وبالرغم من وجود مضامين لا تُحصى من هذه القصة بالنسبة للإسرائيليين الذين تبعوا موسى، إلاَّ أن السمة الأكثر بروزاً في هذه الفقرة هي أنها ذكّرتهم أن الله كان يختبر أمة إسرائيل لكي يرى عُمقَ ولائهم له. لقد أجرى الله العديد من الاختبارات لأمة إسرائيل في أيام موسى. وقد ذكّرتهم طاعة إبراهيم لاختباره بحاجتهم لطاعة هذه الاختبارات، بغض النظر عن مدى صعوبتها. كما وذكّرهم التأكيد على مستقبل إسحاق العظيم باعتباره ذرّية إبراهيم، بالمستقبل العظيم الذي سيحصلون عليه إذا اجتازوا هذه الاختبارات.
إن الحلقة الثانية من الخطوة الأخيرة في حياة إبراهيم هي قصة شراء رئيس الآباء لموقع الدفن في 23: 1-20. حيث تصف هذه القصة كيف حصل إبراهيم على موقع دفن العائلة في حبرون عندما ماتت زوجته سارة. وتؤكّد هذه الرواية أن إبراهيم لم يقبل هذه المُلكية كهدية لكنه اشتراها. وأسس سند المُلكية هذا حقّ عائلته الشرعي في اعتبار أرض كنعان كموطن لهم.
وقد فهم الإسرائيليون الذين تبعوا موسى، أهمية ومضامين شراء موقع الدفن بالنسبة لحياتهم. فقد كان موقع دفن أسلافهم. حيث دُفن هناك كلّ من إبراهيم، إسحاق، ويعقوب. كما فهموا أن لديهم ملكية شرعية في الأرض، حتى قبل احتلالها. وقد أمضى إبراهيم، إسحاق، ويعقوب الشطر الأكبر من حياتهم في حبرون وما حولها. وكان الإسرائيليون ملتزمين جداً بحبرون على اعتبار أنها موطن أسلافهم حتى أنهم حملوا عظام رئيس الآباء يعقوب ليدفنوها في حبرون. وقد أثبتت قصة شراء إبراهيم لأرض الدفن هذه أنَّ المكان المناسب لنسله هو أرض كنعان فقط.
 
إن الحلقة الثالثة من ذرية إبراهيم ووفاته، هي القصة المؤثرة لكنّة إبراهيم رفقة، والتي أصبحت زوجةً لابنه المفضّل إسحاق في 24: 1-67. وحتى يتأكد من تجنب إسحاق لفساد الكنعانيين، أصرَّ إبراهيم في هذه القصة، على عدم زواج إسحاق من امرأة كنعانية. لكن إبراهيم تأكد أيضاً من بقاء إسحاق في أرض كنعان، أرض الموعد، وذلك بإرسال خادم ليحضر زوجةً لإسحاق. وبإيجاد زوجة لإسحاق بهذه الطريقة، ضمن إبراهيم مستقبلاً عظيماً من بركات الله لإسحاق ونسله.
كان على الإسرائيليين الذين تبعوا موسى أن يتعلموا من هذه القصة أن إسحاق، الذي هو صلة الأسلاف بإبراهيم، بقي طاهراً من فساد الكنعانيين حتى عندما حافظ على موطنه في كنعان. وسيكون مستقبل إسحاق المشرق والمبارك مستقبلهم أيضاً، طالما أنهم يقاومون أيضاً فساد الكنعانيين الذين كانوا يقيمون في أرض الموعد.
إن الحلقة الأخيرة من حياة إبراهيم هي قصة وفاة رئيس الآباء ووريثه في 25: 1-18. حيث تضع هذه المجموعة من البيانات العديدة والمختصرة قائمة بأبناء إبراهيم من زوجات أخريات ما عدا سارة. ثم تنتقل إلى وفاة رئيس الآباء، والذي تلقى إسحاق فيه بركة إبراهيم النهائية باعتباره وريثه الشرعي. أخيراً، تختم بجزء مغاير يضع قائمة بنسل إسماعيل بشكل مختصر.
كان لخاتمة حياة إبراهيم هذه عدة مضامين بالنسبة للقراء الأصليين. فقد أدرجت أبناء إبراهيم الآخرين لتميّز بينهم وبين الإسرائيليين. كما أنها سلّطت الضوء على مباركة إبراهيم النهائية لإسحاق، لتؤكد للإسرائيليين الذين تبعوا موسى على أنهم الورثة الحقيقيين لوعود إبراهيم. وذكرت نسل إسماعيل لنفي أية ادّعاءات قد يلجأ إليها الإسماعيليون فيما يختص بميراث إبراهيم. وبختم وصفه لحياة إبراهيم بهذه الطريقة، حددَ موسى هوية، حقوق، ومسؤوليات نسل إبراهيم الحقيقية، أي الإسرائيليين الذين قادهم إلى أرض الموعد.
وهكذا نرى أن موسى كتبَ قصصَهُ عن حياةِ إبراهيم ليُعلّمَ بني إسرائيل الذين قادهُم لماذا وكيف ينبغي عليهُم تَركُ مِصرَ والتقدمَ نحوَ امتلاكِ أرضَ الموعد. ولتحقيقِ هذه الغايةُ، شدّدَ موسى، وبطرقٍ مختلفةٍ، في كلِّ حلقةٍ من قصةِ حياةِ إبراهيم على كونهم ورثةُ النعمةِ المعطاةِ لرئيسِ الآباء، وأنهم مسؤولين عن ولائِهِم لله كما كان إبراهيمُ مسؤولاً، وأنهم سيحصلوا على بركاتِ الله كما حصل عليها إبراهيم، وأنهم سيُباركوا جميعَ قبائلَ الأرضِ يوماً ما. إن لوصفِ موسى لحياةِ إبراهيم مضامينَ غيرَ محدودةٍ بالنسبةِ لبني إسرائيل الذين تبعوه إلى أرضِ الموعد.
 
 
الخاتمة
 
لقد نظرنا في هذا الدرس إلى المعنى الأصلي لوصف حياة إبراهيم في سفر التكوين. وقد تمعنّا في اتجاهين رئيسيين حتى نستكشف هذا المعنى الأصلي: فمن جهة، فحصنا الروابط التي أقامها موسى بين هذه القصص وخبرات الإسرائيليين الذين توجه إليهم بكتاباته، ومن جهة أخرى، تمعنا في الطريقة التي صمّم بها موسى قصصه ليؤثر في قرائه الأصليين عندما تركوا مصر وراءهم وتقدموا لاحتلاله أرض كنعان.
بينما نتعلّمُ عن الروابطِ التي أقامَها موسى بين إبراهيمَ والقراءِ الأصليين من بني إسرائيل، والتأثير الذي توقّعَ أن تتركَهُ قصتُهُ على قرّائِهِ، سنكتشفُ أن الغرضَ من كلِ حلقة من حياةِ إبراهيم ليس فقط إرشادِ بني إسرائيل، ولكننا أيضاً سنكونُ أكثرَ قدرةً على تمييزِ كيفيةِ تطبيقِ هذه القصصُ على حياتِنا اليوم.
 

والآن، ها هي فرصتك للحديث معنا عما تفكّر فيه
يا صديق، نحن نريد أن نساعدك في رحلة الإيمان. الخطوة التالية هي أن ترسل لنا برغبتك في المعرفة والإيمان لنتواصل معك، فنشجعك ونصلي من أجلك. نحن نتعامل بحرص وسرية مع كل رسائل الأصدقاء